
تتميّز الجزائر بتاريخ عريق وثقافة متنوعة، يمكن اكتشاف جانب رئيسي منها في الأطعمة والمأكولات التقليدية. عندما نجلس إلى طاولة الطعام في عيد الأضحى، نتحدث لساعات عن مذاق الأطباق الرئيسية في هذه المناسبة، وعن تاريخها ونشأتها وأصل تسميتها، لأنّ بعض الأكلات تحمل أسماءً غريبة وطريفة.
من بين الأطعمة التي أصبحت جزءاً من الثقافة الجزائرية الشعبية، ومتداولة بكثرة رغم غرابة اسمها وخروجه عن المألوف طبق "البوزلوف" (رأس الخروف) والذي يتمّ طهيه فوق الفرن، ويُطلق على هذه العملية "التشواط"، وهي من الطقوس المحببة لقلوب النساء في أول أيام العيد، إذ يقمن بحرق الرأس بيد، وينزعن باليد الأخرى بواسطة سكين شعر الرأس المحترق. وتتكرّر هذه العملية حتى يصبح الرأس خالياً تماماً من الشعر.

بعد ذلك تأتي عملية تنظيف رأس الخروف، إذ يتمّ غسله جيداً، وقطعه عمودياً وأفقياً، والهدف من ذلك استخراج "الدود" الموجود برأسه. وهناك وصفات وطرق عدّة لتحضيره، تختلف من منطقة إلى أخرى وحتى بين ربّة بيت وأخرى، فمنهن من يفضّلن طهيه في اليوم الأول، ليكون حاضراً على طاولة العشاء، ومنهن من يتركنه إلى ما بعد العيد.
ومن أشهر وصفات "البوزلوف" التي يعشقها كثيرون تلك التي تقتضي طهيه ناشفاً بلا مرقة وفي قدر خاص، وآخرون يفضّلون طهيه في الفرن مسلوخاً محمّراً (برق عينو). وثمة وصفة أخرى تُسمّى "شطيطحة بوزلوف".
ومن الأكلات الرئيسية التي تُحضّر في هذا اليوم أيضاً، على سبيل المثال، طبق شطيطحة بالمخ، والذي يُعدّ بمخ الخروف والطماطم والثوم وحبّات من البيض، ويُقدّم في اليوم الأول خلال وجبة العشاء.
"المفشش في حجر أمه"
ومن الأطباق التي تنتهز النسوة فرصة العيد لتحضيرها، لأنّ اللحم لا يكون متاحاً بكميات وفيرة إلاّ في هذه المناسبة، "المفشش في حجر أمه"، وهي أكلة تعدّها سيدات البيوت بين الحين والآخر، ومنهنّ والدتي.
في الصغر حين كانت تتردّد على مسامعي، خُيّل إليّ أنّها عبارة عن مثل شعبي يُطلق على الأطفال المدلّلين، ولمّا كبرت اكتشفت أنّ هذه العبارة تمّ تحويلها إلى طبق شهيّ.
تقول الروايات إنّ "أصل التسمية مرده إلى الطفل الصغير الذي يجلس في حجر والدته، وتروي الحكاية المتداولة شفوياً على ألسنة النساء العجّز، أن أمّاً كانت تُرضع مولودها رضاعة طبيعية تزامناً مع تحضيرها الطبق، ومن هنا جاءت التسمية"... هكذا تستهل الشيف وردة، من منطقة الحراش، الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائر حديثها لـ"النهار العربي".
تجتاح النوستالجيا صوت الشيف وردة وهي تستحضر هذا الطبق: "المفشش في حجر أمه من أهم رموز الطبق التقليدي العاصمي القديم، يُقدّم بكثرة خلال شهر رمضان وفي عيد الأضحى لأنّه يُحضّر باللحم، وهناك من يقدّمه مثلاً في الأيام العادية خلال العزائم".

طريقة تحضير هذا الطبق سهلة ولا تتطلب وقتاً كثيراً، فهو عبارة عن تغطية البيضة المسلوقة باللحم المفروم أو الكفتة ويُنكّه بالثوم وكمية من البصل والقليل من البقدونس أو حشيشة المعدنوس باللهجة المحلية، وكمية قليلة من الخبز اليابس المطحون والملح والفلفل الأسود وكمية من القرفة، ثم يُجمع الخليط بالبيض. وبعد الانتهاء من تشكيل البيض المسلوق تُقلى في الزيت وتقسم الحبة الواحدة نصفين، وفي الأخير يُرفق هذا الطبق بمرق أبيض تقليدي، وهو الأكثر شيوعاً، يُعدّ بالبصل وكمية قليلة من الثوم والفلفل الأبيض وعود من القرفة وأطراف من لحم الغنم والحمص المنقوع.
"سكران طايح في الدروج"
"سكران (سكير) طايح في الدروج"، وراء هذا الطبق التقليدي القديم قصص عدة، وهنا تختلف الآراء بشأن أصل تسميته، لكن الرواية الشائعة والمتداولة بحسب نزيهة، وهي ربّة بيت، هاوية وشغوفة بالطبخ التقليدي الجزائري، تعود إلى "عدم تجانس وتناسق المقادير التي يضمّها الطبق، والصورة الفوضوية له، وهو ما دفع إلى تشبيهه بالرجل الذي كان في حالة سكر شديدة ويسقط على السلالم".
ما أصل الطبق؟ أجابت نزيهة: "جزء كبير من الجزائريين يعتقدون أننا ورثناه عن الحقبة العثمانية بالجزائر، لكن الحقيقة تقول عكس ذلك، فهو طاجين عاصمي شعبي وتقليدي يشتهر به أهل العاصمة".
سألتها عن طريقة تحضيره فقالت: "مع تعاقب العمر ومرور سنين وسنين على نشأته، أُدخلت تغييرات عديدة على الطبق، لكن الوصفة الأصلية منكّهة بالخل والقرفة من البهارات الأكثر استعمالاً من طرف سكان الوسط، لنكهتها المميزة في المرق الأبيض".
ولإعداد "سكران طايح في الدروج"، ومع بساطة مكوناته، يحتاج لسرّ خاص: فهو عبارة عن فيونداشي (لحم مفروم) وبصل مرشوش بعدد من التوابل كالقرفة وبهار الفلفل الأسود أو الفلفل الأكحل، يتمّ قليه في كمية قليلة من السمن على درجة حرارة متوسطة داخل الفرن، وفي الأخير يُغطى بالبيض والخل.
"طاجين دار عمي"
في قاموس اللهجة الجزائرية تعني بيت شقيق أبي، لكنها في المطبخ الجزائري لها قصة أخرى. "طاجين دار عمي" وجبة تقليدية عاصمية، ابتكرتها في الماضي البعيد فتاة عاصمية ذهبت لزيارة دار عمها، وفي وقت الغداء أو العشاء حضّروا لها هذا الطبق فعشقت مذاقه، ولما عادت إلى منزلها طهت الطبق لعائلتها فتعلّقوا به هم أيضاً، ولمّا سألوها عن اسمه التزمت الصمت في البداية وبعدها ابتكرت له تسمية "طاجين دار عمي".
ولتحضير هذا الطبق، تقول سندس، المتخصّصة في مجال الطبخ بكل أنواعه، وهدفها نشر موسوعة لمختلف الأطباق التقليدية وتقديم الجذور التاريخية والبطاقات التقنية لكل طبق: "الطاجين عبارة عن مرق أبيض يُحضّر بلحم الخروف والبصل والحمص المنقوع في الماء وبهارين أساسيين لا يمكن الاستغناء عنهما في المرق الأبيض وهما الفلفل الأسود والقرفة، وعلى الجانب الآخر يتمّ تحضير صبيعات (على شكل أصابع) مكوّنة من اللحم المفروم والبصل والمعدنوس والملح والفلفل أسود والقليل من البيض، ويتمّ في الأخير قليها في الزيت وتقديمها مع المرق الأبيض".

"خداوج على الدربوز"
عبارة قد تبدو غريبة ومتناقضة عندما تسمعها، لكن سنتمكن من إشباع فضولنا إذا عرفنا أنّ المقصود بـ"خداوج" أميرة عثمانية من أصل جزائري، فقدت بصرها من كثرة تحديقها في المرآة مطولاً، لأنّها كانت مولعة بجمالها. وثمة رواية أخرى تقول إنّ الطبق سُمّي نسبة إلى نبتة الخداوج أو الخدويجة التي تُعلّق على الحاجز الحديدي الذي نجده على الدرج والشرفات، اشتهر به سكان "القصبة" الجزائرية أو "لؤلؤة الجزائر" كما يلقّبها البعض، شيّدها العثمانيون في القرن السادس عشر ميلادي، وهي تشكّل اليوم أجمل معالم التراث الإنساني العالمي.
"خداوج على الدربوز" يحتوى على قطع من اللحم أو الدجاح مقلّاة في الزيت أو السمن النباتي مع البصل والحمص والملح وفلفل أسود وقرفة والقليل من البقدونس، وفي اللهجات العامية المعدنوس، وفي النهاية تحضّر العقدة لتخثير الطبق: نأخذ بيضتين مع ملعقة كبيرة مايونيز وكمية كبيرة من المعدنوس.
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
شمال إفريقيا
10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
اقتصاد وأعمال
10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
النهار تتحقق
10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته.
العالم
10/6/2025 5:00:00 PM
مرحبا من "النهار"...