لم تطرأ منذ سنوات أيّ تغيرات كبيرة في خريطة الفصائل المسلحة التي تنتشر في مناطق الشمال السوري التي تحتلها القوات التركية، ربطاً بحالة الستاتيكو العسكرية التي سادت في هذه المناطق منذ توقيع اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا في عام 2020.
غير أن غياب المعارك الكبيرة بين هذه الفصائل من جهة، والقوات الحكومية السورية من جهة ثانية، شكّل فرصة لأنقرة من أجل إعادة رسم أدوار هذه الفصائل، وإعطائها بعداً دولياً باستخدامها في بعض الجبهات المشتعلة، سواء في ليبيا أو أذربيجان، وليس انتهاءً بالنيجر.
ما زالت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) تشكّل استثناءً في طبيعة العلاقة التي تربط أنقرة بالفصائل المسلحة في هذه المنطقة، حيث تصرّ الهيئة على الحفاظ على جزء من استقلاليتها في مواجهة عصا الطاعة التركية، التي عجزت حتى الآن عن ترويض قيادة الهيئة في حلبة توجّهاتها السياسية والعسكرية التي تشهد في هذه المرحلة انعطافة كبيرة، مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداده لقاء الرئيس السوري وإنهاء الخلاف بينهما، واستعادة العلاقات الديبلوماسية بين بلديهما.
ربما يكون التغيّر الأهم الذي شهدته خريطة هذه الفصائل في الآونة الأخيرة، هو ما فرضته الحرب الروسية - الأوكرانية من ضغط على بعض المقاتلين المتحدرين من أصل روسي أو شيشاني، لمغادرة الأراضي السورية للقتال ضدّ روسيا في أوكرانيا. ويُعتبر عبد الحكيم الشيشاني ومسلم الشيشاني من أبرز الأمثلة على ذلك.
الجيش الوطني السوري
عملت تركيا في عامي 2017 و2018 على مأسسة الفصائل العسكرية المنتشرة في مناطق عمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"، بتشكيل ما يسمّى "الجيش الوطني السوري"، بهدف تعزيز سيطرتها عليه بما يخدم مصالحها وتوجّهاتها. وعلى الرغم من أنها نجحت ظاهرياً في هذه الخطوة، فإن الطابع الفصائلي والمناطقي ظلّ من العوامل التي تثير المشكلات ضمن صفوف هذا الجيش، وصولاً إلى اندلاع اشتباكات مسلحة بين تشكيلاته التي يُفترض أنها تتبع وزارة دفاع واحدة، في ما يسمّى "الحكومة السورية الموقتة" المنبثقة عن الائتلاف السوري المعارض، إضافة إلى عوامل أخرى ذات علاقة بأرباح المعابر والتهريب والاتجار بالبشر.
يتألّف "الجيش الوطني السوري" من ثلاثة فيالق، ويُقدّر عديد الفيالق الثلاثة بنحو 30 إلى 40 ألف مقاتل. يتألّف الفيلق الأول من 9048 إلى 12064 مقاتلاً، والفيلق الثاني من 12261 إلى 16348 مقاتلاً، والفيلق الثالث من 8694 إلى 11592 مقاتلاً.
ولم يعد لهذا الجيش الذي تموّله وتدرّبه تركيا ،بعد خفوت صوت المعارك مع الجيش السوري، سوى مهمّة وحيدة هي العمل بصفته مرتزقة لحماية المصالح التركية، سواء في الداخل السوري أو في الخارج. وأشارت العديد من الدراسات التي صدرت حول هذا الجيش، أن نسبة كبيرة منه، قد تصل أحياناً على 90 في المئة، لا تمانع الاندماج مع القوات الحكومية السورية في حال حدوث مصالحة أو تسوية.
الجبهة الوطنية للتحرير
ثمّة شبه إجماع على أن تشكيل "الجبهة الوطنية للتحرير" جاء نتيجة ردّة فعل على التطورات السياسية التي تحوط بملف منطقة "خفض التصعيد" في إدلب. ومثّل التشكيل محاولة لخلق عامل التوازن في الساحة الإدلبية لصالح فصائل محسوبة على تركيا، تلبيةً لالتزامات ملقاة على عاتق أنقرة، بموجب اجتماعات آستانا واتفاق سوتشي.
تشكّلت "الجبهة الوطنية للتحرير" في آب (أغسطس) 2018 من مزيج من فصائل مسلحة غير متجانسة فكرياً وعسكرياً وسياسياً، غير أن القاسم المشترك بينها هو قربها من الاستخبارات التركية. وهذه الفصائل هي: أحرار الشام، فيلق الشام، حركة نور الدين الزنكي، جيش الأحرار، جيش النصر، الفرقتان الساحلية الأولى والساحلية الثانية، جيش إدلب الحر، جيش النخبة، تجمع دمشق، الجيش الثاني، الفرقة 23، لواء الحرية، وشهداء داريا. وغاب عن هذا التشكيل جيش العزة الذي يتمركز في ريف حماة الشمالي، والذي أبقى على علاقاته قويةً مع "هيئة تحرير الشام".
وكانت "الجبهة" من أولى الفصائل التي أعلنت ترحيبها بتوقيع اتفاق سوتشي، معتبرة أنه "نصر للسياسة التركية". لكنها سرعان ما أصيبت بالصدمة بعد اطلاعها على البنود الحقيقية للاتفاق، ما دفعها إلى إصدار بيان ثانٍ تتحفظ فيه على عدد من هذه البنود. وتكشف هذه الواقعة عن مدى انخفاض مستوى التنسيق بين الاستخبارات التركية و"الجبهة"، كما يؤكّد أن عدم التجانس بين فصائل الجبهة تجاه درجة الولاء للتركي ربما يكون إحدى الصعوبات والتحدّيات التي ستواجهها تركيا في أثناء تنفيذ الاتفاق.
رفع تشكيل "الجبهة الوطنية للتحرير" سقف التوقعات بخصوص دورها في حل أزمة إدلب، ورأى بعضهم في تشكيلها إشارةً إلى بدء العمل التركي الجاد نحو حلّ "هيئة تحرير الشام" وإيجاد صيغة لإدارة محافظة إدلب بما يتوافق مع سياسة تركيا في مناطق درع الفرات في ريف حلب الشمالي. لكن سرعان ما كشفت التطورات عن حجم المبالغة في هذه التوقعات لا سيما أن "هيئة تحرير الشام" تمكنت من ضبط الجبهة الوطنية في إدلب وتطويعها على نحو جعلها غير ذي تأثير ميداني.
هيئة تحرير الشام
تشكّلت "هيئة تحرير الشام" في 28 كانون الثاني (يناير) 2017 نتيجة اندماج 5 فصائل رئيسية هي: جبهة فتح الشام (الاسم الجديد لجبهة النصرة منذ منتصف عام 2016)، حركة نور الدين الزنكي، لواء الحق، جبهة أنصار الدين، وجيش السنّة.
في ذروة صعود "هيئة تحرير الشام"، قارب عدد مقاتليه 30 ألفاً، لكنها تعرّضت لجملة من الانشقاقات أهمها انشقاق حركة نور الدين الزنكي وجبهة أنصار الدين وعدد من الفصائل التي انضمّت إليها بعد تشكيلها جيش الأحرار. وأدّت هذه الانشقاقات إلى صعوبة تحديد عدد مقاتلي الهيئة، لكن يُعتقد أنه يتراوح بين 15 و20 ألفاً. وتضمّ الهيئة الكتلة الأكبر من المقاتلين الأجانب، على الرغم من أن أعداد هؤلاء تناقصت نوعاً ما بعد خروج أعداد لا يستهان بها من المبايعين للقاعدة من صفوفها، وتشكيلهم فصيلاً جديداً باسم "حراس الدين" الذي قضت عليه الهيئة لاحقاً.
وتعرّضت الهيئة في العام الجاري لتطورات كبيرة جعلتها تتصدّر المشهد لجهة تفاعل ملف العملاء الذي كاد يسبّب شرخاً واسعاً بين جناح الهيئة العسكري وجناحها الأمني. وأفضى هذا الملف إلى اغتيال القيادي العراقي البارز أبو ماريا القحطاني، وانشقاق الرجل الثالث في الهيئة المدعو أبو أحمد زكور.
جيش العزة
انفرد "جيش العزة" بوضع شبه فريد منذ انطلاق عملية آستانا. فهو من الفصائل القليلة التي شاركت في اجتماعات آستانا ثم قرّرت مقاطعتها بسبب بعض التحفظات على مجرياتها ومقرراتها. وهو كذلك الفصيل الوحيد من التكوين السوري الذي لم ينضمّ إلى "الجبهة الوطنية للتحرير"، مفضّلاً الحفاظ على علاقاته الوطيدة مع "هيئة تحرير الشام".
تشكّل "جيش العزة" في أواخر عام 2015 جراء انضمام ألوية وكتائب عدة إلى "تجمع العزة" الذي يقوده الرائد الفار جميل الصالح، وهو ينتشر بشكل رئيسي في ريف حماة الشمالي باستثناء مورك الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام".
واجه "جيش العزة" معضلة كبيرة مع اتفاق سوتشي، لأن المنطقة المنزوعة السلاح تشمل تقريباً جميع الأراضي التي يسيطر عليها في ريف حماة الشمالي. دفعه ذلك إلى إصدار بيان يتحفّظ فيه على عدد من بنود الاتفاق، لا سيما تسيير دوريات روسية في المنطقة المنزوعة السلاح.
الحزب الإسلامي التركستاني
تشكّل "الحزب الإسلامي التركستاني" في بلاد الشام منذ عام 2013، وذاع صيته بشكل خاص منذ معركة جسر الشغور في عام 2015 بسبب الدور الكبير الذي لعبه في السيطرة على المدينة، والتي أصبحت منذ ذلك التاريخ معقلاً أساسياً له.
تُعتبر هذه الجماعة الجهادية ذات الأصول الأيغورية في الصين من أكثر الجماعات المتطرّفة في سوريا غموضاً وضبابية، نتيجة التضارب الدائم الذي يظهر بين انتمائها وفي ولائها السياسي من جهة، ومواقفها العملية على الأرض من جهة ثانية. ظهر هذا التناقض جلياً في وقوف المقاتلين التركستان إلى جانب "جبهة النصرة" أثناء قتالها مع "أحرار الشام"، كما أن "الحزب الإسلامي التركستاني" لم يصدر أي بيان حول اتفاق سوتشي.
يجمع هذا الحزب المتطرّف بين دعم الاستخبارات التركية له، وتحالفه مع تنظيم "القاعدة" العالمي، الأمر الذي انعكس سورياً في قتاله إلى جانب "جبهة النصرة". لكن ما يلفت الانتباه هو أن الحزب لم يغيّر موقفه من "جبهة النصرة" حتى بعد تحولها إلى "هيئة تحرير الشام" وبروز الخلافات بينها وبين قيادة تنظيم "القاعدة" على خلفية اتهامها بنكث البيعة. كما لم تبرز أي دلائل على أن الحزب حاول التقرّب من تنظيم "حراس الدين" المحسوب على تنظيم "القاعدة".
في المقابل، اتخذ الحزب مواقف عدة طرحت العديد من التساؤلات حول طبيعة العلاقة التي تربطه بالاستخبارات التركية، ولاسيما في ظل التطورات التي حصلت في العلاقة بين تركيا والصين، حيث وعدت أنقرة بكين بالتعاون الأمني إزاء قضية الأيغور المتشدّدين في سوريا. وبالفعل اعتقلت السلطات التركية المئات من هؤلاء في مطار أتاتورك وغيره، بذريعة حيازتهم جوازات سفر مزورة.
أحسّت قيادة "الحزب التركستاني" بالتغيّرات التركية، بل إن مصادر مقرّبة منه وصفت الخطوات التركية بأنها بمثابة "رفع الغطاء الإقليمي" عن الحزب ومقاتليه. تضاءل النفوذ التركي على الحزب في الداخل السوري منذ ذلك الحين، وهو ما تجلّى عملياً بوقوف مقاتلي التركستاني إلى جانب "هيئة تحرير الشام" ضدّ "أحرار الشام"، وكانت من الحالات القليلة التي يتدخّل فيها هؤلاء في اقتتال داخلي بين الفصائل، على الرغم من أن الغاية منه في النهاية كانت الالتفاف على استراتيجية أنقرة ومنعها من استنساخ "درع الفرات" وتطبيقها في إدلب. مع ذلك، ظل في صفوف "الحزب التركستاني" تيار يميل إلى عدم توتير العلاقات أكثر من ذلك مع أنقرة، لأنها جهة إقليمية لا غنى عنها لدعم قضية الأيغور.
وهكذا، أصبح "الحزب التركستاني" يواجه تقييداً تركياً غير مسبوق في دعمه وتيسير تنقلاته، أسوة بغيره من الفصائل التي وضعتها أنقرة أمام احتمالين لا ثالث لهما: تنفيذ الأجندة التركية المنبثقة عن تفاهماتها مع موسكو وطهران، أو انقطاع الدعم عنهم. يأتي ذلك علاوة على قلة الخيارات المتاحة أمام الحزب في ظل اتفاق آستانا وانخراط أنقرة في تنفيذه، وإدراك قادة الحزب أن مرحلة التخلّي السياسي عن المقاتلين الأجانب بدأت في سوريا، "والشاطر من ينجو بجلده".