لطالما حير بناء الأهرامات العلماء والجمهور على حد سواء، ولسنوات طويلة طرحت نظرية الرفع الهيدروليكي على طاولة العلماء لتفسير آلية تشييد هذه الصروح العملاقة. لكن النظرية المثيرة للجدل سكنت هامش النقاشات العلمية؛ ولم تلق الاعتراف الكافي لضعف أدلتها المادية. غير أن ورقة بحثية مثيرة ألقت بحجر في المياه الراكدة أخيراً، وقدمت أدلة أثرية تدعم فرضية استخدام قوة المياه في بناء هرم زوسر المدرج.
نشرت الورقة البحثية في مجلة "بلوس وان" المرموقة هذا الشهر؛ حيث اقترح الباحثون أن قدماء المصريين ربما بنوا نظاماً هيدروليكياً معقداً، تضمن سدوداً للتحقق، وخندقاً جافاً لمعالجة المياه، ونظام رفع هيدروليكي مركزياً، معتقدين أنهم استخدموا هذا النظام لتسخير قوة المياه لرفع الأحجار من داخل الهرم، مما يقلل بشكل كبير من الحاجة إلى القوة البشرية.
قاد هذا البحث، الدكتور كزافييه لاندرو، الرئيس التنفيذي لـمعهد Paleotechnic، وهو مؤسسة أبحاث خاصة مقرها باريس، ويعد لاندرو خبيراً في مجال علم الآثار القديمة والتكنولوجيا؛ إذ يقود فريقه في تطوير واستخدام التقنيات المبتكرة لاستكشاف وفهم الحضارات القديمة، بما في ذلك تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد والتصوير المتقدم والتحليل الرقمي.
في حوار شيق أجراه "النهار العربي" مع الدكتور لاندرو، تحدّث الرجل عن فرضية فريقه الجريئة بشأن بناء هرم زوسر المدرج، موضحاً بالتفصيل طبيعة الأدلة الأثرية المستمدة من داخل مجموعة زوسر التي استندت إليها الدراسة.
سدّ للتحكم في فيضان النيل
نظرية الدكتور لاندرو تعتمد على دراسة متعمقة لطبوغرافيا منطقة سقارة، وتفسير جديد لعدد من الهياكل الضخمة التي لم يكن لها تفسير واضح من قبل. على سبيل المثال، يفترض الباحثون أن جسر المدير، وهو بناء ضخم يقع بالقرب من مجمع زوسر، ربما كان بمثابة سد للتحكم في تدفق المياه والرواسب من وادي أبو صير، مما سمح للمصريين القدماء بإدارة الموارد المائية بشكل فعال.
يقول لاندرو: "من الناحية الأثرية، يمكن إجراء مقارنة مثيرة للاهتمام بين هيكل جسر المدير وسد الكفرة. حيث تتشابه الخصائص التقنية بينهما بشكل ملحوظ، شُيد سد الكفرة الشهير على وادي الجراوي، بالضفة المقابلة للنيل. غالباً ما يُوصف هذا السد، الذي يُعتقد أنه يعود لفترة جسر المدير نفسها، بأنه أقدم سد في العالم. هذا التشابه ليس مجرد مصادفة، بل يقدم دليلاً قوياً على وظيفة جسر المدير المحتملة كسد للتحكم في المياه".
ويشرح: "تؤكد الخرائط الطوبوغرافية للمنطقة أنّ جسر المدير يقع في موقع استراتيجي؛ حيث يسد تماماً وادياً يجمع مياه الأمطار من مساحة لا تقل عن 15 كيلومتراً مربعاً. هذا يعني أنه في حالة حدوث فيضانات مفاجئة بسبب الأمطار الغزيرة، والتي كانت أكثر شيوعاً في الماضي، يمكن أن تحمل هذه الفيضانات كميات هائلة من المواد وتتسبب في دمار كبير. إذا لم تكن الجدران المبنية عبر مثل هذه الوديان مصممة لتحمل تدفق المياه، ستنهار بسهولة. ومع ذلك، صمد جسر المدير لأكثر من أربعة آلاف عام، مما يشير بقوة إلى أنه صُمم أو جرى تعديله على الأقل ليعمل كسدّ".
سمة أخرى تؤكد وظيفة جسر المدير؛ إذ يعتقد لاندرو أنّ الهيكل الداخلي لسد المدير، الذي يتكون من قلب غير منفذ محاط بمرشحات، هو سمة مميزة للسدود الترابية المُقسمة، مما يعزز هذه الفكرة. علاوة على ذلك، تشكل الجدران الجانبية الأصغر حوضاً، وهو أمر نموذجي في أنظمة احتجاز الرواسب.
وفقاً للنتيجة التي خلص إليها الباحثون فإن الأدلة تشير إلى أن جسر المدير لم يكن مجرد جسر، بل كان بمثابة سد مصمم بعناية للتحكم في الفيضانات، وحماية المنطقة من الأضرار.
يعتقد الباحثون أن سد المدير صمم بعناية للتحكم في الفيضانات وحماية المنطقة من الأضرار
آلية الرفع الهيدروليكي
إلى جانب الأدلة الأثرية بشأن سد المدير، يفترض الباحثون أن الخندق المحيط بمجمع زوسر لم يكن جافاً كما كان يُعتقد، بل كان جزءاً من نظام متطور لمعالجة المياه. ربما استخدم هذا النظام لتنقية المياه الأتية من وادي أبو صير، مما يوفر مصدراً للمياه النظيفة لموقع البناء الضخم.
لكن الجزء الأكثر إثارة للجدل في هذه الدراسة هو اقتراح نظام رفع هيدروليكي مركزي داخل الهرم المدرج نفسه. يعتقد الباحثون أن المياه النظيفة من الخندق الجاف ربما استُخدمت لرفع الأحجار من داخل الهرم باستخدام نظام العوامات.
يضيف لاندرو: "لقد كشف فريقنا البحثي أن البنية الداخلية لهرم زوسر المدرج قد تكون متوافقة مع آلية مصعد هيدروليكي لم يتم التطرق إليها من قبل. على وجه التحديد، قدمنا دليلاً على إمكانية نقل المياه من محطة معالجة الخندق العميق إلى شبكة من القنوات تحت الأرض تمتد أسفل هرم زوسر. هذه القنوات، التي تمتد لمسافة 7 كيلومترات، لم تعرف وظيفتها حتى الآن، ولكنها قد تكون جزءاً أساسياً من هذا النظام الهيدروليكي المبتكر".
من خلال هذه الشبكة الهيدروليكية المتطورة، كانت المياه توجه إلى البئر المركزي العميق أسفل الهرم (على عمق 28 متراً). ومن خلال دورات متكررة من التعبئة والتفريغ، ترفع عوامة ضخمة تحمل الحجارة إلى الأعلى. وهكذا، كان هرم زوسر ينتصب تدريجياً مثل البركان، حيث تصل مواد البناء إلى مركزه، وفقاً لوصف الخبير الفرنسي.
عند إجراء مزيد من الفحص، اكتشف الفريق البحثي أن النظام الموجود في قاعدة الأعمدة لم يكن تابوت الفرعون زوسر، بل كان آلية فتح/إغلاق هيدروليكية متطورة؛ حيث تعمل هذه الآلية كصنبور عملاق، ولعبت دوراً حاسماً في بناء الهرم من خلال التحكم في تدفق المياه لملء العمود الرئيسي.
استناداً إلى بيانات المناخ القديم ورسم خرائط لمستجمعات المياه المحيطة، طور الباحثون نموذج هيدروميكانيكي؛ لإثبات أن موارد المياه المتاحة خلال فترة البناء كانت كافية لبناء الهرم باستخدام هذه الآلية المائية المبتكرة.
بنى الباحثون تصوراً مكتملاً عن آلية الرفع الهيدروليكي في هرم زوسر
تساؤلات وأبحاث مستقبلية
تثير هذه الدراسة عدداً من الأسئلة المهمة. على سبيل المثال، كيف تمكن المصريون القدماء من بناء مثل هذا النظام الهيدروليكي المعقد؟ ما نوع المواد التي استخدموها، وكيف تمكنوا من التحكم في تدفق المياه لرفع الأحجار الثقيلة؟ والأهم؛ هل اُستخدم هذا النظام في بناء أهرامات أخرى؟
وحول التساؤل الأخير، يقول لاندرو إنه "لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت أهرامات ميدوم ودهشور والجيزة قد بُنيت بآلية رفع هيدروليكية مماثلة، لكن هذا الاحتمال يبقى مفتوحاً ويستحق المزيد من البحث، لا سيّما البحث عن أعمدة أو هياكل داخلية أخرى في الأهرامات الأخرى، وتحديداً تلك التي تحتوي على أحجار ضخمة يصعب تفسير نقلها بالطرق التقليدية".
ويستطرد: "بشكل عام، قد يمهد بحثنا الطريق لإعادة النظر في كيفية استخدام المصريين القدماء للموارد المائية في الوديان، وربما يفتح آفاقاً جديدة للبحث العلمي بشأن استخدام الطاقة الهيدروليكية في بناء أهرامات مصر".
ويلفت الخبير الفرنسي إلى أن "هذا العمل يوضح أهمية التحليل العلمي الدقيق للمواقع الأثرية، وأهمية الهندسة العكسية لفهم بعض التقنيات القديمة التي قد تبدو لنا غامضة اليوم".
لكن لاندرو يؤكد في ختام حديثه أن ثمة حاجة للمزيد من الدراسات والأبحاث المستقبلية للتحقق من دقة نظريته، مثل إجراء بحث مفصل حول موارد المياه في مصر القديمة باستخدام علم المناخ القديم وعلم الهيدرولوجيا القديم، إلى جانب إجراء مسوحات جيوفيزيائية، وحفريات محتملة لتحديد وجهة الأنفاق المتجهة شرقاً من الهرم، وتوثيق حجمها وارتفاعها ومنافذها والغرف المحتملة والهياكل الداخلية، بالإضافة إلى تكثيف الحفريات حول جسر المدير والخندق العميق؛ لتوضيح استخدامها الهيدروليكي المحتمل، والبحث عن أدلة على بصمة المياه والقنوات والأنفاق.