الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تعلّم الإيمان

المصدر: "النهار"
Bookmark
أعلام لبنانية في باحة القصر الجمهوري (تعبيرية - نبيل اسماعيل).
أعلام لبنانية في باحة القصر الجمهوري (تعبيرية - نبيل اسماعيل).
A+ A-
غسان تويني جئتُ حالةَ الإيمان من طريقين مختلفين. الطريق الأوّل عبر دراستي الفلسفة في جامعة هارفرد والتي حدّدها أرسطو على أنها معرفة العلل والمبادئ الأولى. وفعلاً إنّ إدراك هذه العلّة الأولى هو الذي يطلق عمليّة التفكير الفلسفي كلّها. وهذا بالطبع لا يجعل منك إنساناً مؤمناً لكنّه بالتأكيد يزرع فيك «استعداداً» ما. وأنا كطالب فلسفة كنت على قناعة فكرية بأنّ هناك إلهاً، لكن ليست تلك القناعة التي تحملك على تقبيل الأيقونات.وكان الجوّ العائلي يحمل قيماً متناقضة في هذا المجال. فوالدي كان من الماسونيين الأحرار وهو بالتالي ذو أفكار فريدة جدّاً في هذه المسائل، وقد أراد أن يترك لأولاده حرّية اختيار الدين الذي يريدونه في عمر السادسة عشرة. وكنّا أربعة صبيان غير معمّدين، وهذه الحالة غير المحسومة جعلت والدتي، ذات الإيمان العميق، في حالة ارتباك شديد. وفي الحقيقة أنّها لم تحتمل هذا الوضع لدرجة أنها في أحد الأيام اتّصلت بالمطران، من دون علم والدي، طالبة إليه أنّ يعمّد فوراً أبناءها الأربعة، وقد وضعته أمام خيار صعب، فإما أن يحضر، أو تحملهم إليه لتعميدهم، وإما أن تلجأ إلى كاهن الحيّ لأنه لم يعد بإمكانها الانتظار. امّا المطران، وهو على علاقة باردة بجبران تويني الماسونيّ، فقد حار في أمره ثمّ أجاب والدتي: «هل تعتقدين أنه تنقصني المشاكل مع زوجك؟»، فأجابت بكلّ صراحة متّبعة هدى قلبها وحسب: «إذن عليك أن تختار بين مشكلة مع زوجي ومشكلة مع الله». فما كان أمام المطران إلا أن يقتنع وضرب موعداً لوالدتي وأبنائها الأربعة البالغين من العمر ستّ سنوات وأربعاً واثنتين وسنة واحدة، في كنيسة مار الياس. وفي هذه الأثناء، سارع إلى الاتصال هاتفيّاً بوالدي لكي يبلغه بأنّ عمادة أولاده، وبسبب إلحاح زوجته الشديد، هي على وشك أن تتمّ. ثمّ استقدم كاهناً لكي يساعده وذلك لأنّ تغطيس الفتية ثلاث مرّاتٍ ليس عملاً بهذه السهولة. وبدوره كان المطران في منتهى الصراحة مع والدي إذ خيّره بين أن يسرع ويشارك في هذا الاحتفال القسريّ إلى حدٍّ ما، وإما أنّه سينجز ما يجب إنجازه. وجاءت ردّة فعل والدي كما قدّرتها والدتي على الأرجح، إذ طلب ألا يبدأوا قبل وصوله. ولا أذكر إن كان وصل في الوقت المناسب تماماً ليشهد عمادة أولاده الأربعة، وخصوصاً عمادتي أنا إذ يفترض أن يبدأوا بالبكر. ففي المجتمع الشرقي، حقّ البكر لا يمرّ عليه الزمن. وفيما بعد ظلّ المطران يذكّرني بأنّني، في يوم عمادنا الخفيّ، لم أكن طيِّعاً قطّ وأنني جذبته من لحيته، أما أنا فلا أذكر أي شيء من ذاك الفصل سوى أنني احتفظت لكنيسة مار الياس بطينا، وهي من القرن الثاني عشر، بإجلالٍ كبير. فلأنّ اسمي الأوّل، غسّان، ليس اسم قدّيس، ولمّا يزل، فقد اختارت لي والدتي في العماد اسم الياس ليصبح فيما بعد شفيعي. ويبقى مار الياس قبل كلّ شيء بالنسبة إليّ الكنيسة التي كانت والدتي تأخذنا إليها في أحد الشعانين، وإليها أخذْتُ أولادي بدوري. وكلّ الطوائف، باستثناء البروتستانت طبعاً، يحتفلون بدخول المسيح إلى أورشليم وبرتبة آلامه بحرارة منقطعة النظير تترك أثرها عميقاً في نفس فتى يانع. فهل أن عمادي منحني الإيمان؟ من المؤكّد تماماً أنه أعطاني شيئاً من القابليّة للإيمان، وسمح لي بأن أطرق باب الفلسفة بجملة تساؤلات باتت محفورةً عميقاً في قلبي. لكنّ الإيمان الحقيقيّ تولّد فيّ يوم رأيت والدتي تصلّي في دير صيدنايا في سوريا وهو، على الأرجح، المحجّة المسيحيّة الأكثر استقبالاً للزوّار بعد القدس في الشرق الأوسط، والمشهور بأنه يحوي «الشاغورة»، وهي أيقونة العذراء التي يقال إن القديس لوقا قد رسمها والتي تجلّها الطوائف الأورثوذوكسيّة. فربما هناك من نسِيَ أنّ سوريا كانت أوّلاً، وحتى الاجتياح المملوكي، أي حتى القرن الحادي...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم