الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

"حياد" لبنان في التاريخ وحظوظه الراهنة

المصدر: "النهار"
Bookmark
تعبيرية (نبيل إسماعيل).
تعبيرية (نبيل إسماعيل).
A+ A-
د. محمّد شيّا*1- تمهيد: النزوع إلى الحياد، وما يتضمنه من نأي بالنفس عن الصراعات الخارجية، نزوع سامي المضمون وإنساني المنطلق والغايات. ولم تكن الفكرة تلك لتدخل حيّز التداول والممارسة منذ أمد بعيد، في كل الحضارات، وبين الجماعات والممالك والدول المختلفة، لو لم تستند إلى وعي واضح بعبثية النزاعات المسلحة والصراعات الدامية، والتي تترك من الخسائر، وفي عشرات التجارب الملموسة، ما يفوق كثيراً أية مكاسب آنية لهذه الجهة أو تلك.وليس أدلّ على حساسية فكرة الحياد وأهميتها غير ملاحظة أن البشرية الحديثة منذ عصبة الأمم سنة 1918 إلى نشأة منظمة دول عدم الانحياز في باندونغ (إندونيسيا) سنة 1960، إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان سنة 2021 "سنة الحياد" قد أدركت بوضوح ضرورة تشجيع فكرة الحياد في السياسات الدولية وإدخالها مادة بارزة في القوانين الوطنية والدولية، وحيثما أمكن ذلك.ولا يخفى أن أهمية الفكرة تلك هي ما دفع بعدد من البلدان الأوروبية إلى إعلان الحياد، وتكريسه في دساتيرها، ومحاولة تأمين ضمانات دولية له – وأبرزه حياد سويسرا ( بموجب معاهدة باريس 1815)، ثم حياد النمسا (في إعلان عن البرلمان النمساوي 1955)، مع فارق بالتأكيد بين نمطي الحياد أعلاه، وظروف كلٍ منهما. هوذا مدار بحث المقالة هذه: ما مضمون فكرة الحياد؟ هل من أشكال مختلفة للحياد؟ سياسات الحياد في خلال التطور التاريخي لإمارة جبل لبنان، ثم للبنان الكبير؟ وأخيراً ما فرص نجاح مقترح حياد لبنان، الذي أطلقه غبطة الكاردينال الراعي منذ سنتين؟ 2- التعريف بالحياد، وأركان فكرة الحياد الناجح:في تعريف أوّلي مباشر، الحياد هو: "الوضع القانوني الذي يضمن عدم انخراط أو مشاركة دولة هي في حرب مع دولة أخرى".هذا هو المعنى الأولّي المباشر للحياد، nonalignment؛ أي النأي بالنفس عن الاشتراك مع أية دولة هي في صراع (أو حرب) مع دولة أخرى. هو عدم الانحياز لطرف ضد طرف آخر؛ ولا يتضمن مبدئياً ما هو أكثر ذلك. هذا التعريف الأولي كان مثلاً في صلب فكرة "دول عدم الانحياز". كان مضمون الفكرة البسيط والمباشر، النأي عن الصراع العنيف الذي طبع بطابعه معظم فترات القرن العشرين بين المعسكر الغربي (الرأسمالي) والمعسكر الشرقي (الآشتراكي). هذا هو المعنى الأول، المباشر، الأكثر شيوعاً لمصطلح "الحياد"؛ الحياد السلبي، بالمعنى الدقيق للكلمة.إلاّ أن هناك معنى ثانياً أكثر تعقيداً للحياد، أكثر تفصيلاً وواقعية وأوسع مدى، وإن يكُ غير متناقض مع المعنى الأول؛ وهو الحياد الإيجابي أو الناشط. الحياد بالمعنى الثاني هو مدار البحث في هذه المقالة، ولن تُفهم سياسات أمراء جبل لبنان (وبخاصة فخرالدين الثاني)، كما المضمون الحقيقي لخطاب غبطة البطريرك الراعي إلا في ضوء ما أسماه "الحياد الناشط"، أو "الحياد الإيجابي" في تسمية أخرى. في تعريف أكاديمي لكرانستون (من كتابه "المصطلحات السياسية"، الترجمة عن دار النهار، ص 95) نقرأ التالي:"الحياد عموماً يعني التعايش الإيجابي الفعّال، وسياسة صنع السلام، والسياسة المستقلة؛ هو الحياد الإيجابي".سياسات الاستقلال الوطني، الحرص على السلام وصنعه، والتعايش الإيجابي بين الشعوب، هي المعاني الصريحة التي يتضمنها مفهوم الحياد الإيجابي؛ أي الحيّاد الفعّال، الذي يتضمن أكثر من مجرد النأي بالنفس و"الفرجة" على صراعات الآخرين. ولعلنا نجد بعضاً من الفكرة تلك في كتاب كانط Kant "مشروع للسلام العالمي"، 1795، والذي كان حاضراً في كل الاعلانات الدولية اللاحقة. لقد كان (بعد معاهدة وستفاليا 1648) أول محاولة نظرية حديثة لوقف دوامة العنف المتواصل الديني والزمني الذي سيطر على أوروبا في حقبة نهاية العصر الوسيط وبداية عصر النهضة، حقبة الصراعات الدينية والمذهبية والسياسية الحادة، وبدء محاولات بناء الدول "الكبرى"، في آن معاً. إذا كان النمط الأول البسيط من الحياد لا يتضمن أكثر من النأي بالنفس؛ فإن النمط الثاني، الحياد الناشط أو الإيجابي، هو أكثر تطلّباً. هو يقوم على أربعة أركان رئيسية، أي أربعة شروط عامة يجب توفّرها، وهي:أولا، إجماع داخلي على فكرة الحياد، مبنيّ على قاعدة الاعتدال والشراكة،ثانياً، القدرة الداخلية، الدفاعية تحديداً، على حماية الحياد،ثالثاُ، ضمانات دولية قانونية وديبلوماسية وسياسية،رابعاً، موافقة دول الجوار الإقليمي.إذا تمعنّا في الشروط الأربع أعلاه، يتبيّن أنه بالإمكان استخدامها في بناء مقياس يمكن أن نقيس في ضوئه درجة نجاح هذه التجربة في الحياد أو تلك. ليست الشروط أعلاه بحاجة للتفسير أو الشرح، مع بعض الانتباه للشرط الأول، وهو توفّر الإجماع الداخلي. فالاجماع المطلوب ذاك لا يتحقق إلا على قاعدة صلبة من الاعتدال في السياسات الخارجية، ومن الشراكة السياسية والاقتصادية الناجحة في الداخل. وعلى نقيض الاعتدال والشراكة، فكل تطرف في السياسة الخارجية أو إقصاء سياسي أو اقتصادي في المعادلات...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم