الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

طارق بطيحي يحتفي بالعروس والجريحة والطفل في بيروت... الكلّ "تحت سقف واحد"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
طارق بطيحي في معرض "تحت سقف واحد".
طارق بطيحي في معرض "تحت سقف واحد".
A+ A-

نحن حقّاً "تحت سقف واحد"، في بيروت الجريحة الّتي تطبّب جرحها، وهي بالأصل بيروت العروس الّتي تشقّ مساحات الفرح لأنّها مفطورة على نعمة ونقمة إعادة اختراع الأمل، والذي تستمدّه من شخوصها المنهمكين في كفاحات صغيرة، ولكنّها تعني لهم ولبيروت كلّ الحياة... رؤية تلاحمت بين العامين 2016-2021، وهي الفترة الّتي أنجز خلالها التشكيليّ السوريّ طارق بطيحي 20 لوحة يعرضها في غاليري  Arton 56th، حتّى نهاية نيسان.

 وجد بطيحي نفسه على مسافة مثاليّة تمكّن من رؤية التّفاصيل غير المرئيّة، بعدما انصهرت في شريط التافه واليوميّ، لكنّ الحساسية التي جعلته يحتفي من خلالها بإنسانيّة المدن، وفي طليعتها عَيش الفنان في بيروت الملجأ ودمشق الأم. فالمدينة هي الوجوه الّتي تحفر حضورها. الوجوه عابرة ولكنّ مرورها يحفر علامة على الحمض النووي لبيروت. للتجارب متحوّرات من محكيّات ومهن وأذواق وموروث ثقافيّ وربّما صدمات ستورثها لجيل بعد جيل...

 

يحفل المعرض بتناقضات الحلو والمرّ، ولكنّها النّضارة تعترش المشهد، فالفنّان اختار "عروس بيروت" لوحة أساساً لمعرضه. ملامح هادئة ملفوحة بحزن رقراق، وفي عينيها أخضر بهيّ يلهم الخصوبة وتجدّد الحياة. إنّه اقتناع بأنّ بيروت تملك سلطاناً على الحقيقة، ولو بدا أنّها غير قابلة للتغيير، فالنظرة هي ما تستحكم بالمعنى الذي يبقى متعدّداً وعصيّاً على الجمود. عروس بيروت تجد الحياة في قلب المأساة وهذا خيارها وبطيحي يحتفي به. يجسّد الأزرق في الخلفيّة، بحر بيروت، ولئن استقبل أثقل الفواجع في 4 آب، ولكنّ بحر بيروت يبقى ركناً من جماليّاتها الّتي فرضت تأثيرها على بطيحي فجعلها الرمز والإطار.

 

وقبالة هذه اللوحة تنتصب "الجريحة"، ومن سخرية الأقدار أن تغدو اللوحة حقّاً جريحة، فيوم انفجار 4 آب، كانت اللوحة معلّقة على نفس الجدار تحضيراً لمعرض في ذلك الوقت، فشطب الوجه من الأنف وتضرّرت اللوحة في أنحاء كثيرة، لكنّ الفنان وبعد تفكير قرّر عدم ترميمها بطريقة تطمس معالم الجرح. تصالُح مع الندوب، لأنّها العلامة الناطقة بأنّ مأساة مسحت الوجه لكنّه نجا.

تتفرّع هذه المقاربة في تجسيد شخصيّات تحافظ على مرونتها بالرغم من القسوات باختلاف درجاتها. ولعلّ الشارع هو المسرح المفضّل، فمنه التقط الرسّام وجوهاً هامشيّة حوّلها من خلال العمليّة الفنّية إلى موضوع  احتلّ المساحة والمركز فلم تعد قابعة في الهامش، من لوحة "بائع الأقلام"، و"الحضن"، و"المعطف الأصفر"، و"الناعس"... وتحتلّ الطّفولة اهتماماً لافتاً، فأفرد لها لوحات توحي بـ"الرأفة" و"التعاطف" مع حالة الطفولة، بهشاشاتها، وطراوتها، وصدق الفرح والتدرّج في مراحل الحياة: "الحضن"، "الطفل والدولاب"، "طفل في الروضة"، "ذاهب إلى المدرسة"، "وجه"، وهناك طفل يحمل طفلًا يصغره... أمّا لوحة "الغريق" فتوحي بأنّها بورتريه ذاتيّ للفنّان. هو غارق ولكنّ عينيه فوق الماء، يستسلم للدّفق لكنّ عينيه لم تغشَهما المياه. بهما يلتقط الصّور ويعيد خلقها، فكيف سيصف المشهد إن كان غريقاً فيه؟





تحوّل مبدأيّ في الموضوع المختار. تخلّى طارق  بطيحي عن التركيز على بورتريهات نسائيّة في مشاهد يوميّة كانت ثيمة أعماله خلال مسيرته الفنية، غير أنّه وسّع عدسته في مجموعته الجديدة، لتضمّ عناصر أخرى تحسّسها ربّما في أبوّته الحديثة، وارتفاع الشعور الإنسانيّ مع تفاعلات انهيار الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في لبنان. وبقدر ما سعى إلى تصوير الواقع في بيروت، هو عبّر عن العواطف والاستجابات لكلّ من شخوصها من خلال تطبيق ديناميكيّ للعناصر. لوحات غير مزدحمة لكنّ سماكة اللّون هيّأ لها كثافة بصريّة تنمّ عن تطويع متقدّم لتقنية الأكريليك وانكسارات الضوء.

لامعٌ إلمام بطيحي بنقل الحالة السيكولوجيّة لشخوصه من خلال أسلوبه التعبيريّ. لا يركّز على أشكال العناصر بقدر ما تصنع ضربات الريشة الشعور المنشود. اللون هو التعبير. لعلّنا نتلقّيه مثلما أعطاه. نسمع الضّربات اللّونية المتتالية موقّعة بعصب اليد، ومن فرط المشاعر يخيّل للمتلقّي أنّ كلّ اللوحات رُسمت دفعةً واحدة في لحظة تداعيات حرّة أطلقت العنان للشحنات النفسيّة الّتي راكمتها تجارب الذات والآخر وبيروت والكلّ في بيروت.

 

لن تصاب "العروس بيروت" بفشل معنويّ. ينضب هذا الإيمان في "تحت سقف واحد"، حيث المرأة لا تزال المحور لكن بصورة مدينة. كأنّ رجاء الفنّان تردّد لمناجاة عقل العويط لبيروت: "يجب ألّا تموتي (...)، تخيّلي أنّك ستلتئمين كعروس، وأنّك كأمّ ستنجبين. وتخيّلي، فقط تخيّلي، أنّك ستكونين أرضاً وتراباً مُخصّباً للحبق والأطفال والياسمين".

 

 

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم