"ينطا بين الماضي والحاضر" للباحثين فارس وسالم اشتي: التحوّلات المجتمعية في سياقها التاريخي
29-10-2020 | 17:33
المصدر: "النهار"
سلمان زين الدين
هاجس الزوال الذي حدا بأنيس فريحة، ذات يوم، إلى وضع دراسته القيّمة، "القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال"، فدوّن العادات والتقاليد والأدوات والمناسبات والمعتقدات، بالكلمة والرسم، انطلاقًا من قريته رأس المتن، وحفظها من الزوال، هو نفسه الذي حدا بالباحثَيْن فارس وسالم اشتي إلى وضع دراستهما القيّمة، "ينطا بين الماضي والحاضر"، فتناولا، في أقسام أربعة، موقعها الجغرافي، بنيتها الاجتماعية، حراكها المجتمعي، وتاريخها الإداري، وحفظا تاريخ قريتهما من الزوال. ذلك أنّ التاريخ الذي لا يُدوَّن محكومٌ بالاندثار والنسيان. ومن لا تاريخ له لا مستقبل له. هذا الهاجس نفسه يقيم في صلب عملية الكتابة أيًّا كان الحقل المعرفي الذي تخوض فيه.
في دراستهما، يتوزّع الباحثان العمل، فيقوم سالم اشتي بالجانب الميداني المتعلّق بجمع الوثائق المكتوبة وزيارة الأماكن والمواقع الأثرية وإجراء المقابلات، ويقوم فارس اشتي بالبحث والكتابة مستندًا إلى ما جمع الأوّل، من جهة، وإلى المصادر والمراجع المتوافرة، من جهة ثانية. بذلك، يتمخّض هذا التعاون الجميل عن دراسة علمية قيّمة، ويثبت الباحثان أنّهما ابنان بارّان لقريتهما. ولأنّ البحث، في هذه الدراسة، ينهض به فارس، فإنّ كلمة الباحث في هذه العجالة تشير إليه، دون أن ينتقص ذلك من الجهد الميداني الكبير الذي بذله سالم، وشكّل أحد مَصْدَرَيِ الدراسة.
يحدّد الباحث في المقدّمة إطار البحث الزماني الممتد من مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم لتوافر المعطيات البحثية، خلال هذه المرحلة. ويحدّد إطاره المكاني بينطا وجوارها الذي كان يضيق حتى يقتصر عليها ويتّسع حتى يشمل المنطقة، القريبة والبعيدة، تبعًا لتوافر المعطيات. ويذكر الأسباب الذاتية والموضوعية لاختيار الموضوع، ومصادر دراسته الآنفة الذكر، ومنهجية البحث التي تتوزّع على: التفتيش عن المعطيات في المصادر المادية والكتابية والشفاهية، الافادة من الحقول المعرفية المختلفة المتعلقة بالموضوع، ووضع التحوّلات المجتمعية في سياقها التاريخي.
في القسم الأوّل من الدراسة، يتناول الدارس موقع ينطا وَوَقْعَ التاريخ عليه. وهو، إزاء ندرة المصادر ومحدوديتها، يلجأ إلى استنطاق سبعة مواقع أثرية في البلدة ومحيطها، ودراسة أسماء الأماكن والمواقع العقارية مقتفيًا أثر كمال الصليبي في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، غير أنّ هذه العملية لم تكن تفضي دائمًا إلى نتائج حاسمة بقدر ما تنتج منها احتمالات متعدّدة يصعب ترجيح أحدها على الآخر. وهو يحدّد الموقع على المستويات الجغرافية والتاريخية والجيوسياسية؛ فعلى المستوى الأول الجغرافي، تقع ينطا على إحدى الهضاب الشمالية لجبل حرمون، وترتفع عن سطح البحر 1553 مترًا وهي، مع بقاع كفرا الشمالية، القرية المأهولة الأعلى عن سطح البحر، في بلاد الشام. وعلى المستوى الثاني التاريخي، كانت تقع على خط التَّماس بين الأمبراطورية المصرية في الجنوب والأمبراطورية الحثّية في الشمال، وفي مرحلة لاحقة بين البطالسة في الجنوب والسلوقيين في الشمال، حتى إذا ما جاء الفتح الإسلامي تخرج من موقعها التَّماسي الحدودي، وتتحوّل إلى قرية داخلية. وعلى المستوى الثالث الجيوسياسي، تُشرف ينطا على ممرَّيْن اثنَيْن يربطان الساحل اللبناني بالداخل السوري، هما ممرّ الكُنَيْسة من الجنوب، وممرّ وادي منصيا من الشمال الغربي، وهما ممرّان كانت تعبرهما القوافل التجارية والحملات العسكرية. هذا الموقع المشرف هو ما منحها وظيفة المراقبة والحراسة، عبر التاريخ، الذي كان وقعُه على الموقع وسكّانه ثقيلاً، في غير مرحلة تاريخية.
القسم الثاني، يُخصّصه الباحث للبنية الاجتماعية في ينطا، من خلال رصده حركات السكّان، وبنى الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية. فيتناول في الأولى، مستندًا إلى الإحصاء العثماني والحجج والوصايا والمصادر الأخرى، تواريخ قدوم العائلات التسع والأربعين إلى القرية، وأحجام ملكياتها العقارية، ويخلص إلى أنّ العائلتَيْن الأقدم فيها هما تمراز وداود، وأنّ الأولى تقيم في ينطا منذ خمسمئة سنة. ويتناول في الثانية تطور بنى الإنتاج من البنية الزراعية المغلقة إلى البنية الزراعية المفتوحة إلى إنتاج الخدمات خارج القرية. ويتناول في الثالثة طبيعة العلاقات الاجتماعية في القرية، القائمة على علاقات المكان والعمل والدم. ولكلٍّ منها دورها الذي يكبر أو يصغر تبعًا للظروف.
في القسم الثالث من الدراسة، يرصد الباحث الحراك المجتمعي في ينطا، على المستويات السياسي والاقتصادي والتربوي والإنمائي؛ فيتناول، على المستوى الأوّل السياسي، مشاركة القرية المرجّحة والمحقّقة والفاعلة في المعارك السياسية والعسكرية، في مراحل تاريخية مختلفة، نذكر منها: المشاركة ضدّ الحكم المصري في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، والمشاركة في الثورة السورية الكبرى في النصف الأوّل من القرن العشرين، والمشاركة في ثورة 1958 بقيادة الزعيم كمال جنبلاط.
ويتناول، على المستوى الثاني الاقتصادي، الهجرة الينطانية بمراحلها الأربع التي تمتدّ من أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، والمفارق أنّ هذه المراحل تسبق أو تتزامن أو تعقب اندلاع حروب وأحداث معينة في المنطقة، كالحرب العالمية الأولى، والثورة السورية الكبرى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الأهلية اللبنانية.
ويتناول، على المستوى الثالث التربوي، تاريخ التعليم في ينطا، في القرنَيْن الأخيرَيْن. ففي القرن التاسع عشر، اتّخذ التعليم طابَعًا دينيًّا، واقتصر على القراءة والكتابة، وقام به بعض رجال الدين في بيوتهم. وفي القرن العشرين، مرّ بأربع مراحل هي: التأسيس، والتلمّس، والتكريس، والتطوّر. وفي وقائع هذه المراحل: بناءُ المدرسة في العام 1922، توسيعُ المبنى واستقدام معلّمين من خارج القرية في العام 1926، طلبُ العلم خارج القرية، افتتاحُ فرع للمدرسة الداوودية في العام 1938، بدءُ التعليم الرسمي في العام 1943 وتمرحله بين التقطّع والازدهار والتعثّر والتراجع، تبعًا للظروف المحيطة به.
ويتناول، على المستوى الرابع الإنمائي، حركة تأسيس الجمعيات الإنمائية في القرية أو افتتاح فروع للجمعيات السياسية. فتشكّل أُطرًا للتفاعل بين أبناء القرية تتعدّى الأطر الأوّلية للانتماء، وتعود على القرية بالفائدة والإنماء. ولعلّ ازدهار هذه الحركة نجم عن الاحتكاك بمجتمعات أخرى، من خلال الهجرة والنزوح.
القسم الرابع والأخير من الدراسة يُفرده اشتي للتاريخ الإداري لينطا ومحيطها. فيتناول المشاركة الإدارية للقرية في: المرحلة العثمانية، مرحلة الانتداب، ومرحلة الاستقلال، وتدرّجها من انعدام المشاركة في المرحلة الأولى، إلى المشاركة الخجولة نصًّا الفاعلة ميدانًا في الثانية، إلى المشاركة المتدرّجة فاعليّةً المتبدّلة اتّجاهًا في المرحلة الثالثة. والمشاركة في إدارة الشأن العام انحصرت في إطارَيِ المختار والشيخ في المرحلتين الأولى والثانية، بحيث يدير الأوّل الشأن المدني، ويدير الثاني الشأن الديني، حتى إذا ما أزفت مرحلة الاستقلال، يُضاف إلى هذَيْن الإطارَيْن آخران هما: البلدية للشأن البلدي، والمخفر للشأن الأمني. وبذلك، تزداد أطر المشاركة في إدارة الشأن العام بمرور الزمن، وتتعدّد أشكالها تبعًا لازدياد الحاجات القروية. ويذيّل الدارس دراسته بستّ عشرة وثيقة، واثنتين وثلاثين شجرة عائلة، وجدول تطوّر المدرسة الرسمية بين العامين 1945 و2017، ما يغني الدراسة ويعزّز علميّتها.
يخلص الدارس إلى جملة من الخلاصات التي تطبع "ينطا بين الماضي والحاضر"، ونخلص معه إلى: قِدَم الموقع وأهمّيته، قداسة المنطقة، تعدّد أصول السكّان الجغرافية، تضامن أهلها في ما بينهم، تدرّج علاقات الإنتاج، الاهتمام بخيار التعليم، تجاوز الانتماءات الأوّلية، التفاعل مع المحيط، المشاركة في الأحداث العامّة، وتطوّر أطر إدارة الشأن العام. وهذه الخلاصات، إن دلّت على شيء، إنّما تدلّ على موقعٍ متقدّمٍ للقرية في محيطها القريب وادي التيم، وفي الوطن. ولم يحل نأيها عن العاصمة دون سعي أهلها الدؤوب إلى مواكبة الجديد، وترسيخ موقعها على الخريطة الوطنية.
وبعد، على أهمّية الدراسة، والجهد الكبير الذي بذله الجامع والكاتب، فإنّ نقصًا بنيويًّا يشوبها يتعلّق بعدم التطرّق إلى العادات والتقاليد وأنماط العيش فيها، وهي في صلب هويّة القرية اللبنانية الحضارية، ولا يمكن التذرّع بحجم الكتاب لتبرير هذا النقص البنيوي، فلا قرية دون هذه الهوية الحضارية. غير أنّ ما يشفع للكاتب، في هذا السياق، تعهُّده بوضع دراسة خاصّة تتناول "حضارة القرية التي في طريق الزوال"، على حدّ تعبير أنيس فريحة.
"ينطا بين الماضي والحاضر" كتابٌ مرجعيٌّ في بابه، يزخر بالتفاصيل الكثيرة، ويكتنز بالمعلومات المتنوّعة، ويسدُّ نقصًا كبيرًا في تاريخ ينطا خاصّة ووادي التيم عامّة، ويشكّل مصدرًا لا غنى عنه لدارسي المنطقة وأبنائها، ويعكس جهدًا كبيرًا بذله الباحثان، الجامع والكاتب، فبورك هذه الجهد، وإلى مبادرات مماثلة في القرى الأخرى.