الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رمزي حميدان في "نشوة العصيان" يؤكِّد للمرأة: "حرَّةٌ أنتِ... ردّي له ضلعَه!"

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
لوحة الغلاف بريشة فراس الشامي.
لوحة الغلاف بريشة فراس الشامي.
A+ A-

في  شهر حزيران من السنة 2018 كانت مقاهي بيروت تعجّ بالروّاد المولَعين بمتابعة مباريات الفوتبول من خلال شاشات عملاقة جُهّزت لهذا الغرض، بينما كنت أنا وصديقتيَّ سهير شعلان وأدال الحوراني نغذّ السير باتّجاه مقهى Aspasia Forum   في شارع السادات- الحمرا، والشوق إلى موائد الفكر يشدّنا، سيّما وأنّ صاحب المقهى رمزي حميدان حوّل المكان إلى واحة ثقافيّة راقية، تستقبلك فيها صور كبار المبدعين من شعراء ومفكّرين، مع مقتطفات من أقوالهم الخالدة تزيّن الجدران؛ وقد كان لي مقال نُشر سابقًا في النهار، تحدّثت فيه بشكل موسّع عن هذا المقهى الرائع. لعلّ السرّ في تحويل حميدان هذا المقهى إلى مجلسٍ أدبيٍّ يكمن في شغفه بالشعر والكتابة، وقد يكون إصدارُه الشعري الأوّل "نشوة العصيان" خيرَ شاهد على هذه الشخصيّة الفكريّة المرهفة الإحساس والمؤمنة بحريّة المرأة.

يبدو لنا رمزي حميدان في "نشوة العصيان" مثل هاوٍ يعشق الرسم، فيحدّد بالريشة الخطوط الأولى للصورة التي تضجّ في فكره، من خلال تسع "محاولات" لتسعة نصوص، كأنّها تحاكي أشهُرَ الحمل التسعة التي يتكوّن خلالها الجنين، ليخرجَ بعدها إلى الحياة طفلًا مكتملَ الملامح بديعَ التكوين!

محاولاته هذه تجسِّد واقع أناه منذ تفتّحها على الوجود، ينقش صورتها في لوحات تتمرّد على الصمت المغلَّف بالتقاليد، والمحرّمات، والمحظور... كما لو أنّه يعيد ترتيب مراحل الخلق، وحالات الانعتاق من قوقعة الولادة للانطلاق نحو الفضاء الحرّ، حيث تحلّق فراشة، هي- على ضعفها- محور الكون!

عمليّة الخلق هذه تعقبها ولادةُ ذَكَرٍ يبحث عن ذاته، متسائلًا عن "احتمال قيامة رجل" من عمق هذه الذات؛ رجل  يسعى لتحرير شهوته مُصارعًا ذاته، في محاولة للعبور إلى عريها، لكنّه يتعثَّر بالذاكرة، أو ما زرعه المجتمع فيها من طقوس؛ فيدعوها للتحرُّر من قيدها، "في غفلة عن كاهن الوقت"، علّ رحم الرغبة فيها يمنحها القليل من "نشوة العصيان"!

"محاولات" رمزي حميدان إذًا، هي عبارة عن لوحات تشكّل بداية خلق رجلٍ وامرأة يسعيان للتحرُّر من قيود الذاكرة والمحرّمات. فتتكرّر لديه الأسماء الدالّة، كالمرأة والفراشة والشيطان، بشكلٍ متوازٍ مع تكراره لمفهوم الولادة والذات والذاكرة... وكأنّه يدعو المرأة المولودة لتحرير ذاتها كما تتحرّر الفراشة من شرنقتها لتنطلقَ في "مدارات الفضاء/ تحاول استنشاق/ رحيق النجوم/ في بستان/ الإله" (ص 25) بعيدًا عن الذاكرة الشيطانيّة التي أورثها إيّاها الجهل المسيطر على فكر الإنسان من خلال التقاليد والعادات، والموروث الدينيّ. يبرّر دعوته هذه، تعلُّقُه الشديد بالمرأة التي يضع فيها كلَّ آماله، ويعتبرها ملجأه الوحيد، وأجمل ما في عمره:"لم تبقَ لي غير/ امرأة وحيدة/ تقبض على كلّ/ الأشياء التي/ تعبرُ/ بين الحلم والذاكرة." (ص 32-33) إنّها المرأة التي عرفَتْ كيف تحطِّم قيود الذاكرة وتطلق حلمه من عقاله.

"نشوة العصيان" كتاب يختصر هواجس حميدان، ويحدِّد ملامحه، عاكسًا صراعاته الداخليّة، وتعلّقه الكبير بامرأة احلامه، تلك التي قال عنها: "علّمتني كيف أبحث عن/ الرجل الذي/ لا يشبهني يوم/ وُلدت"! (ص 34) هي المرأة التي حرّرته من قيود الماضي، وأطلقته في عالمها الجميل المحرَّم عليه، والموسوم زورًا وتضليلًا باسم الشيطان. إنّها المرأة الوطن، كما هي المدينة الراقصة على أطلال هياكلَ منسيّةٍ؛ المدينة المعدَمة، التي تُفّاحها مرٌّ ونبيذها بلا لون... مقيَّدة تفتقر إلى الحرية التي أنكرتها وألبستها ثوب ذاكرتها الأسود. (ص 38)

تبقى المرأة هاجسه وحلمه، والذات التي تبحث عنها ذاتُه. يضيع معها على أوراقه المتناثرة التي تحتضن اشتهاءه لبعضها: "أحاول أن أشتهي بعضًا منك/ بعضًا لا يزال يلهو/ بين حروف قصائدي المهاجرة/ دائمًا/ إليك". (ص 39-40)

في موضع آخر ينتقل للحديث عن العماء، "عماء" استطاع -رغم ضعفه- أن يجسِّد لنا لوحة واضحة المعالم، مؤلّفة من: ليل وأصنام وواحة وسراب، وآلهة من زمن الأنبياء... تواطأوا عليه "ودفنوا في الرمال لغته" (ص 41)، ولكنّ عينيه ترفضان الرحيل؛ قد يكون السرُّ في وجهها الذي يعيد إحياء لغته، ويعلّمه مواساة الشعراء!

وبذلك نجد المرأة بحضورها الآسر، وإغرائها الصامت، محور عالمه الشعري، يعود إلى أحضانها سريعًا مهما ابتعد، فترتكب جنح الحبّ معه، مستسلمة للخطيئة، ممارسة في آنٍ الإرهاب والسلام والحب، لتصبحَ الشمس، وأوّلَ قصيدة، والدهشة واليقين، والعزلة والصبر، والوعي واللهيب... ولا يلبث أن يعلن: "هي كلّ المعاصي التي تجتاحني/ في سكينة الخضوع!" فانظروا كيف ينقاد مستسلمًا إلى هذا الحبِّ الذي يجتاحه كالإعصار ليعودَ فيولّدَ فيه السكون!

نعم، هذه هي المرأة التي سمّاها: "حبيبتي" (ص 48-49)، وهو يدرك أنّها الوحيدة التي ستحظى بحبّه، والوحيدة التي يحقّ لها أن تصابَ "بداء النرجسيّة" (ص 51)، والتي يعشق ما لم تبحْ به من أسرار بعد، فحروف شفتيها لا يكتمل جمالها إلّا في قصيدته؛ هي ملهمته المراهقة، وقوس قزح لا يزال يفتّش في قصائده عن معناه الحقيقي.

لكنّه لا يلبث أن ينتقلَ بنا وبشكل مفاجئ (صفحة 63) من الحديث عن امرأته – المرأة المثلى، إلى الحديث  عن الحرّيّة، ودورة الحياة، والوطن... لينتهيَ إلى الواقع المؤلم الذي لا يعرف إن كان اسمه فعلًا "قدر": "الريح هنا موت/ الرغبة حرام/ والحرّيّة مصلوبة على شجرة الحياة". فنقف على معاناته الكاملة من الداخل والخارج: المعاناة المتَّصلة بالكيان الذي هو ذاته المشتّتة والتائقة إلى التحرّر من كلّ القيود، وتلك المرتبطة بالمكان الذي هو الوطن بما يعتريه من ضعف ونقص؛ ولكنّه يتشبّث بالأمل مترقِّبًا في الأفق الولادة الجديدة (ص90) لينهض حرًّا مستقلًّا متفلِّتًا من قيود الذاكرة.

بعد "محاولات"، و"غيوم بانتظار الريح"، و"صور وعناوين"، نصل إلى العنوان ما قبل الأخير: "المستنقع"، حيث يطرح تساؤلاته حول اللغة وقواعدها، واليقين، وواقع الرأس العربي الغارق في ماضيه، التائه عن مستقبله، فلا يجني غير "الهزيمة"...لذا يستسلم لواقعه، ويتبع شيطانه غير عابئ بإغضاب الإله، لقناعته بأنّ شيئًا لن يتغيّر، وأنّه سيولد حتمًا "على جناح ملاك/ فارٍّ من الخدمة/ ممسكًا بين يديه شجرة/ تفاح"! (ص 78) فبنظره واقع الإنسان على هذه الأرض سيبقى على حاله، طالما أنّه عبدُ ما تلقّمته ذاكرته من محرّمات مصدرها "شجرة توت".

في القسم الأخير من "نشوة العصيان" يدخل رمزي حميدان إلى "المنفى"، فنقع على ملحمة العشق الأزلي، حيث يتأرجح سرير معلَّق بين الحرّية والمنفى:حرِّيَّتها ومنفاه، وحرِّيَّته ومنفاها...إلّا أنّ ضعفها ينتصر على قوّته، ووجعها على وجعه، فينتفض ثائرًا لها، معلنًا بالفم الملآن وبصرخة مدوّية، موقفه الثابت: "حرّة أنتِ،/ مولودة/ على صورة مَن/ في السماء/ ردّي له ضلعه..."!(ص 109)

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم