السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

بوهيميّة – "كلنا قوافٍ تائهة نفتّش عن قصيدة تأوينا"

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
غلاف الكتاب.
غلاف الكتاب.
A+ A-
ميراي عبدالله شحاده، بوهيمية، دعتني في إهدائها، قالت: "تعالي معي في حقول بوهيميّتي حتى نطير على أجنحة الحروف والكلمات"! لم تكن مخطئة في حدسها ومدى تأثير دعوتها تلك فيّ، فهي مدركة تمامًا ما لسحر حقولها من سطوة على كلّ من يعشق مثلها جنّات الكلمات! ميراي القلب البوهيميّ العاشق للترحال أبدًا في عالم الكلمة الجميل، المفتونة جينيًّا بدُنيا الشعر، تتنفّسه وتعيشه، تُلبسه روحَها فيزدهي بجمالاتها!"فعصارة تعابيرها وتراكيبها مرآةٌ لروحها الكبيرة" كما يخبرنا الشاعر موريس وديع النجّار في مقدّمته للديوان (ص 8)؛ ميراي ابنة الكلمة المزدهية ببنوّتها لها، تشرّع الساحات لقصائدها، تنثرها كالياسمين في دروبها وهي ترقص رقصة البوهيميّة المتحرّرة إلّا من ألم دفين: ألم الشوق، والعشق، والبُعد، والحنين... مخضِّبةً هامة شِعْرِها بعطر العنفوان والإباء، وبسمتُها المتوهّجة المعانِدة للمستحيل تسكن ملامح وجهها الطفولي، مظهرة قدرتها على ضبط خطواتها خلال ترحالها البوهيميّ، على وقع موسيقى روحها الحرّة من أيّ قيد قد يقصيها عن الحب!
 
 
في الجزء الأوّل من الكتاب تعزف ميراي عبدالله شحاده "على أوتار الحنين" (ص 21)، وهو الجزء الذي يشغل القسم الأكبر من عملها، حيث تبدو قصائدها كلوحات تنقل لنا ملامح روحها الثائرة على حبيب كان كلّ دنياها:
"نعم أحبّك
ضوءًا مطرِّزًا عتمتي بالورد والياسمين...
لك أخلع ظلّي وأرتدي، إن شئتَ يا حبي، خمار الزوال!" (نعم أحبّك - ص32-33)
إلّا أنّ البعاد كان قدرهما:
"مكتوب... أن أبقى هنا وأنت هناك!
بيني وبينك بحارٌ وهضاب
بيني وبينك اللاشيء وكلّ الأشياء!
وصفحة عارية، وصفحة من برقع ونقاب." (على جبين السحاب - ص 34)
وتزداد مع كلّ قصيدة حدّة غضبها عليه، وبالتالي وتيرة إدانتها له وثورتها عليه:
"لن أسامحَكَ يا رجلُ
حوّل الماء إلى خمرٍ
في أقداحي!
وغيّرَ لونَ الحبر في دواتي.
وسكب من زرقةِ أمجادهِ
مجدًا من مزود (كذا) أشعاري!
لن أسامحك! يا من
حمل عصا موسى
وشقّ بها بحاري
وجعل مدّي جزرًا
وجزري، أنا، مهدُ الحواري..." (لن أسامحك! ص 30)
 
 
ولا تلبث أن تصرخ في وجهه:
"إرحل!
إرحل بعيدًا
حتى لا تريدُكَ براثنُ أقلامي!..." (ما ذنب سمائي؟ - ص 45)
هكذا، بقلب طفوليّ يرى الدنيا برمّتها تدور حوله، ونفسٍ أبيّة ترفض أن يُذلّها الشوق ويتحكّم بها البُعد، ترمي ذكراه خلف ظهرها وتشرد في بوادي عالمها الخاص، فيسكن يراعها، وتحطّ رحالها في مضارب خُلّان أخلصوا لها وألبسوها بردة التكريم. نقرأ مما قاله فيها -على سبيل المثال- د. مصطفى الحلوة:
"غجريّة أنت ميراي...
بوهيميّة أنت هويّةً، قلبًا وقالبًا، جوهرًا وعَرَضًا، ومن أيّ الجهات رنونا إليك وأعملنا البصر." (ص 27)
 
هذه البوهيميّة دوّنت في كتابها كلّ ذكرياتها العزيزة، بحلوها ومرّها، من دون أن تسعى لتنظيم أجاندتها أو ألبوم صورها، فتارة تخاطب الحبيب في قصيدة ثائرة، وطورًا تستذكر قولا أو شهادة قيلت فيها؛ مؤكّدة انتصارها على هذا الحب بما يفوقه قيمة، مضمّنة كتابها باقة بوهيميّة مثلها، جمعتها من بساتين عمرها، تضمّ مختلف الأشكال والألوان، فهنا قصيدة لحبيب: "وأنا بين ثنايا تفاصيله / ألد عمرًا فيه ينام عمري الصغير!" (حكايتي مع التفاصيل - ص 57)؛ وهناك مناجاة للوطن: "في بلادي لا نطهو الحبّ في القدور/ ولا نهديه معلّبًا جاهزًا/ في قارورة عطر أو وجبة فطور!/ ...في بلادي، دوالي الهوى معتّقة خمرُها/ ككوثر تهادى عذبًا من خوابي الحبور." (أوتاد الهوى - ص 70-71)؛ وهنالك شكر منها لصديق، كما في قصيدتها "الى التي..." (ص 97) حيث تقدّم شكرها إلى ابتسام يوسف غنيمة... من دون أن تنسى تخصيص والدتها – جارة القمر – بقصيدة (ص 143)، والدتها التي ناضلت وحيدة في معصرة الزيتون: "أعود اليوم وصدى ضجيج العمّال في أذنيّ، وأمّي تبارك محصول الزيتون في كلّ يوم، وتُحصي أشولة الحبِّ الأخضر، وتبارك في كلّ عمليّة جبرٍ بحبّها اللامتناهي، معلّم رزق الله وزوجته فوتين وأولادهما العشرة الذين ولدوا بين ثلمات الحقول ونضرة الزهور". (ص 150). كما تخطّ رسالة إلى أبيها "هذا الذي أنا منه..." (ص 148)
 
ميراي عبدالله شحاده.
 
 وبين هذا وذاك تعلن ميراي عبدالله شحاده بأسى كبير، يعكس عمق الألم الذي يمتحنها:
"أنا يا حبيبي
أتوارى خلف ابتساماتي الصّفراء،
أدّعي الأفراح وأرقص وجعًا بكبرياء!
ربيعي ذابل وفي داخلي مساء،
لا قمر فيه ولا ضحى رجاء!" (أنا امرأة من ضباب – ص 41-42)
يتراكم حزنها عامًا إثر عام:
"وفي كلّ عام، أكبر/ يا نيسان ألف عام" (ص 53).
ويبقى الحبّ هاجسها الأكبر، يتقاذفها مدّه وجزره: "...لا تضع الورود على ضريح الهوى..." (ص 78) تواجهه بالعتاب على الهجران والنوى، بتحدٍّ وعنفوان:
"سأبقى جزّارةً أعاندك
في شدّ الحبال
ومَحوِ الجبال!
وأقطع أمام عينيك جذعَ كلّ امرأة
خِلتَها يا حبّي شجيرة لهو ودلال! (سأبقى - ص 80)
 
ترتفع وتيرة هجومها على الحبيب كما لو أنّها محكومةٌ بموسيقى رقصتها البوهيميّة الجريئة، فنشعر بها تدور في مكانها، ومع كلّ لفتة ترميه بسهام غضبها: "والأربعون في قواعد العشقِ / ضاعفتُها، لا بل ثلّثتُها، خمَّستُها، / وشرّعتُ منكَ قوانيني!" (سُحُبُ الأحلام - ص 88)، وعوضَ أن توقعَه صريعًا، نجدُها ترمي سلاحها وتخرج من اللعبة: "سأمزّق جلباب صدري، وأرميك خارج الضلوع"! (في جرن الأحزان - ص 91)
في "بوهيميّة" تداخلت قصائد العشق مع رسائل الشكر والرثاء والمديح والوطنيّات، وطغت روح الثورة في حديثها عن الحبيب كما عن الوطن (في عشقي ثورة - ص 117) معلنة بإباء: "أنا من كورة الزيتون والمرجان"، من دون أن تغفلَ ذكر الفيحاء (طرابلس يا حبيبة - ص107) إلّا أنّ الثورة الأكبر تبقى تلك المعلَنَة على الحبيب:
"شكرًا لباقات الحزن المزهراتِ/ في نيساني وفي الأوديةِ والهضباتِ/ فقد أسكنت يا سيّدي بلابلها/ قرميدَ أشعاري وقافياتي!/ شكرا لك من الأعماقِ!.../ شكرًا لهجرك لي!/ يا مَن رمّمَ في داخلي أطلالَ السماواتِ/ ومن جنائن الهوى اقتطفَ لي ثمار الظلمات..." (شكرا لهجرك لي! - ص 113-114)
 
في القسم الثاني من كتابها "خواطر من دمي" (ص 121) تنثر ميراي عبدالله شحاده أمامنا عصارة خبراتها الحياتيّة، بحلوها ومرّها: "ذكريات جميلة... تظلّلنا... من رذاذ مطر أسود في زمن رديء." (حفنة من ذكريات - ص 125). لتعود بعدها في القسم الثالث، إلى دفاتر ذكرياتها، فتختار "شذرات من الماضي" العتيق (ص 131) مؤكّدة من خلالها ارتباط هذه البوهيميّة العميق بجذورها. وفي رسالتها إلى لينا، وهي لمّا تزل في عمر 12 سنة، نرى الكلمات تتدفّق في أوردتها كما الدماء، ثمّ تتألّق أمامها على الورق مفعمة بالروح والقوة والحياة.
 
"بوهيميّة" باقة تضمّنت تاريخ صبيّة شرّعت بابها للكلمة تطلقها حرّة من كلّ قيد، معلنة نهاية حبٍّ حاصرها زمنًا طويلا وتحرّرت منه،"فربّ نهايات أضحت عتبة لبدايات أجمل"! (ص139) إلّا أنّ حبّها بل عشقها للكلمة يبدو أن لا انعتاق لها منه، أليست هي القائلة: "كلنا قوافٍ تائهة نفتّش عن قصيدة تأوينا."؟! (ص 130)
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم