الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"الشيطان وتجديد الفكر الديني" لنبيل عمر: ثورة للفصل بين الدين والدولة

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
مع أنّه حديث الولادة، يستقطب كتاب "الشيطان وتجديد الفكر الديني" لنبيل عمر، الصادر عن دار غراب للنشر والتوزيع 2021، أهلَ الفكر والعلم، فترى المقالات والآراء حوله تتتالى على المواقع الثقافيّة، ويحظى بحيّز كبير من الاهتمام؛ لكلٍّ قراءته الخاصّة ووجهة نظره في ما يقرأ. من جهتي، وقبل الخوض في تفاصيل الكتاب البحثيّ التحليليّ، القائم على التعليل الفكريّ الواعي، لا بدّ لي من الإشارة إلى ما يتركه هذا الكتاب في ذهن قارئه من أثر قوي، لما امتاز به نبيل عمر من دقّة في التحليل ومقاربة الأمور والحكم عليها، إلى جانب موضوعيته، ورجاحة فكره، وإحاطته الشاملة ليس بالدين الإسلامي فحسب، وإنما بالجماعات التي نَسَبَت نفسها جورًا إليه، كما بتاريخ الديانات المتعاقبة على الأرض منذ ما قبل المسيحيّة.
 
تناول نبيل عمر في كتابه واقع الديانة الإسلاميّة، منطلقًا من البيئة التي وُلد فيها النبيّ، مُظهرًا مدى قساوتها، وبالتالي مدى حاجتها إلى منقذ يخرجها من الظلام الذي تتخبّط فيه... موضحًا أنّ "مكة نفسها بيئة صعبة... أي وُلد النبيّ في أمّة تائهة في الضلال والجهل والبغي والظلم والشرك والكفر والفرقة والاستبداد والقساوة والعنف والغضب والسخط." (ص 56) كان مجيء النبيّ إذَا حاجة ملحّة، فهدى الناس إلى دين الإسلام، الذي وضع النظم الضروريّة لتسهيل حياتهم. كما أضاء الكاتب على شخصيّة النبيّ وارتقائه سلّم الإيمان، وصولا إلى دعوة الله له؛ متوقّفًا عند تحليل العلماء لأسس هذه الديانة، فيقول: "... وكان محمد يصعد الى غار أعلى جبل حراء طوال شهر رمضان من كل سنة... يلتمس طريق الحق. واختلف العلماء في الشرع الذي كان يتعبّد عليه، فقيل شرع نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى وقيل عيسى، وقيل كل هؤلاء." (ص 57) في سعي منه لكشف كل ما أحاط بهذه السيرة وبعصر النبيّ، بدقّة متناهية، بغية تقريب الصورة إلى أذهاننا، وإدخالنا إلى عمق الواقع الذي كان قائمًا، لنلمس الحقائق ونُعمل العقل فيها، مرتكزين على وقائع دقيقة، فلا نُصدر أحكامًا جائرة لا يمكن تصحيحها، هو القائل: "الكتابة مثل طلقات الرصاص، إذا خرجت يصعب تصحيح مسارها، وتظلّ عالقة بمن أطلقها مهما اعتذر أو تراجع وبرّر أسباب فعلته...." (ص 59)
 

هل الاقتداء بالغربيّين كفر؟
حين يضيء على واقع الإسلام عبر التاريخ، يختار نبيل عمر أبرز ما قيل في الإسلام والمسلمين، من دون أن يسعى لستر عيب أو تجميل تشوّه، مظهرًا من خلال هذا الكشف نقاط الضعف التي استدعت انتقادات المنتقدين، أو مكمن العلّة في الإساءة إلى الإسلام، مؤكّدًا أنّ المسبّبات لا ترتبط بالدين بحدّ ذاته وإنّما بكيفيّة تطبيقه لدى العديد من القيادات الدينيّة أو السياسيّة، عبر التاريخ، بطريقة تتلاءم مع مصالحهم ولا تمتّ إلى جوهر الدين بصلة؛ كما يرفض حصر الإسلام في إطار العصر الذي ظهر فيه، مستشهدًا بما كتبه شكيب أرسلان في وصفه للمسلمين وما أصابهم من انحطاط وضعف، وعلم ناقص، وجمود على القديم لدى "الفئة التي لا تريد أن تغيّر شيئًا، ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي: ظنًّا منهم بأنّ الاقتداء بالغربيّين كفر." (ص 113)؛ مشيرًا إلى أنّ الصراع بين أتباع الدين، أو القدماء والمحدثين "يصدّ الملايين من المسلمين عن استكمال طريق التحديث العقلي، حماية لعقيدتهم وتقاليدهم من خطر التشويه". (ص 117) بذلك نرى أنّ الكاتب لا يخجل من الإشارة إلى الخلل الذي يُظهره النقّاد، كونه يعلم أنّ هذا الخلل ليس ناجمًا عن الدّين، بل عمّن يطبّقونه أو يفسّرونه بشكل خاطئ، وأنّ الإسلام في جوهره أرقى من أن يقف عند هذه الحدود الضيّقة.
 
من جهة أخرى يندّد بالحروب التي قامت عبر التاريخ ضدّ كتب التراث، بحيث يعمد الغالب إلى حرق كتب المغلوب ومحو كلّ أثر له؛ مشيرًا إلى مدى أهمّية كتب التراث التي "تصلح لتفسير مراحل من تطور العقل المسلم في فهم دينه والعالم" ومثلها عشرات المؤلفات في تاريخ الإنسانية والمعارف العامة والفلسفة، كَتَبها فلاسفة ومفكّرون وعلماء، سواء في حضارة اليونان القديمة، أو حضارة الرومان أو النهضة الأوروبية، وحتى حضارة الأمويين والعباسيين..."، وبالتالي لا يجوز حرقها أو تمزيقها في ميدان عامّ. (ص 119). موضحًا بصريح العبارة أنّ "الثورة الفكرية الدينية التي نطالب بها، ليست على كتب الدين كما يظن البعض، وليست على كتب التراث لحرقها، وإنما على رجال دين تجمّدوا وهجروا عصرنا، وجرجرونا معهم إلى الخلف..." (ص 132) ويتابع في موضع آخر قائلا: "لو دقّقنا النظر وأمعنّا الفكر وأطلقنا العقل فيما (كذا) ورد في كتب التراث، سنكتشف بسهولة ما يمكن أن نأخذه منها، وما يجب أن نهمله منها، دون أن ينقص من إيماننا شيء..." (ص 131). فهو إذًا مع الانفتاح على الآخر أيًّا يكن هذا الآخر.

دعوة إلى ثورة فكريّة دينيّة والفصل بين الدين والدولة
يدعو إذًا نبيل عمر في كتابه هذا إلى ثورة، ثورة فكريّة ودينيّة، توقظ العقول النائمة التي تتلقّى من دون أن تحلّل، منقادة انقيادًا أعمى خلف فتاوى تجرّد الدين من جوهره وتُلبسه رداء الأمّيّة والجهل. مؤكّدًا أنّه ليس ضدّ الدين بحدّ ذاته، مطالبًا بالفصل بين مفهوم الدين ومفهوم الفكر الديني، فالدين لا يحدّه عقل، بينما الفكر الدينيّ هو نتاج عقل الإنسان المحدود: "باختصار... الفكر الديني ليس هو الدين، وإنّما إعمال العقل فيه. والعقل محدود بثقافة صاحبه، وبيئته، ومذاهبه، وأغراضه." (ص131) كما أنّه يبرّئ النبيّ ممّا سبّبته السياسات التي جاءت بعده من قتل واستئثار بالحكم، طالَ حتى أبناء البيت الواحد من المسلمين أنفسهم، وهو أمر ما كان ليحصل في حياة النبي أو ليرضى به، سيّما وأنّ رسالته النبويّة لم تشتمل على تأسيس نظام حكم، فـ "لو كان الرسول أسّس دولة معلومة الشروط والعناصر ما وقعت كل هذه الخلافات وما سُفكت كل تلك الدماء، فكيف يختلفون على ما حدّده الرسول حسب رسالة السماء؟" (ص 150)
يجعلنا نبيل عمر نلمس لمس اليد هيمنة الحكّام واستغلالهم للدين بما يتناسب مع مصالحهم، مغذّين النعرات الطائفيّة والتطرّف الديني، مجنّدين بفتاويهم عامّة الناس للدفاع عن حكمهم وحماية سلطتهم بقوّة السلاح وسفك الدماء بحجّة الجهاد: "واحد من أهم أسباب العنف والتطرف والقتل الذي تمارسه الجماعات الدينية هو الفهم الخاطئ لمعنى الدولة، وأنّ الدولة جزء من الدين، لا يصح إلّا بها، فهذا خطأ يصل إلى درجة الخطيئة، فالدولة تتوسّع وتنكمش، وتقوم وتختفي، تنهار وتنقرض، لكن الدين دائم ومطلق، وهذا لا يعني أن نعزل الدين عن المجتمعع، فهذا لا يصح، والإسلام دين ومجتمع وليس دولة، فيمكن أن أكون مسلمًا مؤمنًا في الإسكيمو أو فوق جبال الأنديز أو في جزر الكناري أو على شواطئ المحيط الجنوبي، وأؤسس في مكاني مع المسلمين في هذه الأماكن مجتمعًا مسلمًا نلتزم فيه بكل التعاليم والقيم الإسلامية، دون أن نؤسّس دولة إسلامية"! أليست هذه دعوة صريحة لفصل الدين عن الدولة؟
 
وهل أجمل من هذا التحليل الواعي وهذه النظرة الثاقبة لحقيقة الدين وواقع اعتناقنا له؟ فهو يتجلّى من خلال هذا الشرح دينًا يعلّمنا القيم ويمنحنا حياة كريمة مسالمة. وهنا تحضرني حادثة حفرت كجرح غائر في وجه مسيحيّي مصر في حقبة من تاريخهم، حين نصّب بعض رجال الدين أنفسهم مدافعين عن الديانة المسيحيّة، فدانوا الفيلسوفة هيباتيا وقتلوها بطريقة شنيعة على الملأ، بعدما اتّهموها بالهرطقة والكفر والخطيئة، ناقضين كل ما جاء على لسان المسيح من تعاليم تدعو للمحبة المطلقة، والمغفرة أيًّا يكن الجرم، هو الذي دافع عن الزانية قائلا: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر" (يوحنا 8: 7)، فولّوا مدبرين جميعهم؛ وهيباتيا لم تكن زانية. ولنعتبر أن هيباتيا عدوّة لهم مسيئة إليهم، ألم يعلن لهم المسيح بشكل صريح قائلًا: "أَحِبّوا أعداءَكم، بارِكوا لاعِنيكُمْ أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى 5: 44)، فأيّ قول من تعاليم المسيح دفعهم لتنفيذ جريمتهم وتحريض الناس على قتل هيباتيا باسم الدين سوى مصالحهم الشخصيّة؟! أليس الأمر مشابهًا لما عرضه لنا نبيل عمر من فتاوى المتطرّفين البعيدة عن جوهر الإسلام وما دعا إليه؟

دولة ديموقراطية عصريّة
فإن كان هدف "المدافعين عن الدين" – أيِّ دين – حفظه ممّا قد يهدّده، يوضح الكاتب واقعًا يغفل عنه هؤلاء، وهو أنّ "الدين محفوظ بالمؤمنين به والملتزمين بتعاليمه. ولم يحدث أن تعرّض أصحاب دين للاضطهاد أو التعذيب وتخلّوا عنه واختفى من العالم." (ص 159)
انطلاقًا من هذا الواقع يكشف نبيل عمر، لمن غشيت أبصارهم، المعنى الحقيقي للدين والدولة، ويسعى جاهدًا لإرشادهم إلى الطريق المؤدي إلى "دولة ديمقراطيّة عصريّة"، تخلّصنا من "حكم الفرد المستبد... بما فيه من إهدار لحقوق الإنسان وتقديم فروض الطاعة وسلب قيمة المواطنة وعدم احترام الرعية، وحبس الحريات العامة، وتفصيل علاقات سياسية على مقاس أولي الأمر". (ص 159)
 
أليس هذا واقع شعوبنا العربية؟ أليس هذا ما رزحنا ولا زلنا نرزح تحته على مرّ العصور؟ أليس هذا مشتهى قلوبنا جميعًا؟! والكاتب يبسّط لنا الأمور ويوضحها من دون "تعقيد وفلسفة وكلام كبير، فالإسلام دين، وجوهر الدين مطلق لا يتغير وهو الله سبحانه وتعالى، والدولة فكرة بشريّة أي من عقل البشر وناتجة عن تطوّرهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وجوهر الأفكار "التغيير الدائم"، فلا دائم إلا وجه الله... الدين ثابت لا ينتهي ولا يموت، والعالم به مئات الديانات عمرها من عمر الأرض ولم تندثر". (ص 160)
 
نعم، العقل الواعي يدرك تمامًا ويعي بالتحليل المنطقي، كما يعرضه لنا فكر نبيل عمر، أنّه "يستحيل أن يكون الدين والدولة شيئًا واحدًا، مهما لصقت الدولة نفسها بصفات دينية "يهودية، مسيحية، إسلامية.. إلخ". فالأديان لم تهبط على الدول وإنّما هبطت على الإنسان الفرد، ولم يكلّف الله بها الدولة وإنما كلّف الفرد مهما هاجر من أرض إلى أرض، ومن دولة إلى دولة، وكل الأنبياء دعوا "الفرد" للإيمان وليس الدولة." (ص 161)
كان نبيل عمر دقيقًا في تحديد معنى كلّ كلمة وأبعادها، مشدّدًا على أهمية تفسيرها كما ينبغي، داعيًا إلى فهمه بشكل صحيح، وعدم تأويل مقاصده أو تفسير كلماته بطريقة خاطئة، مؤكّدًا لنا وجهة نظره بالقول: "يستحيل أن أدعو إلى هجر الدين وتركه إلى علوم العصر، هذا ليس مقصدنا ولا يمكن أن ننادي به، فالحياة من دون تديّن فيها كثير من القبح والشر، لكن ثمّة فارقًا بين التديّن والتديين، التديّن عقل والتديين انفعال، التديّن وعي، والتديين عماء.. التديّن جوهر وعمل وسلوك، والتديين شكل ومظاهر وطقوس فارغة من معانيها الراشدة، وشيوع التديين سببه "الكهنوت الشعبي"، الذي يقوده "زعماء وقيادات وكوادر، لها نزاعات شخصيّة، ونقاط ضعف، ومصالح خاصة وتمثيل طبقي، ومنوط بها تسيير أمور العباد حسب فهمها للدين." (ص 178) وهم سبب بلاوينا بما يبتكرونه من تأويلات وتفسيرات وفتاوى تضرب عرض الحائط بجوهر الدين وسموّه.
"الشيطان وتجديد الفكر الديني" كتاب لا ننتهي منه إلّا وقد ترسّخت لدينا قناعة بأنّ نبيل عمر هو صاحب فكر راق ومنفتح، يستحق احترام وتقدير كلّ مؤمن، لأي ديانة انتمى.

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم