الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تراجيديا ناديا تويني في ذكراها: هل أنا وليدةُ كذبٍ في بلادٍ لم تُوجد؟

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
الشاعرة الراحلة ناديا تويني تُعايِن أطلال بيروت المشلّعة، خلال تصوير فيلم "هَمَسَاتْ" للمخرج الراحل مارون بغدادي (نبيل إسماعيل - 1980).
الشاعرة الراحلة ناديا تويني تُعايِن أطلال بيروت المشلّعة، خلال تصوير فيلم "هَمَسَاتْ" للمخرج الراحل مارون بغدادي (نبيل إسماعيل - 1980).
A+ A-
مع نهاية الربيع و"هِجْرات الطير" نحو أرضٍ جديدة، رحلت ناديا تويني. أغمضت عينيها في وقت الضحى وعادت إلى الأرض التي خرجت منها. "إذا كان رابط الإنسان بالأرض الصليب دون غيره، فيجب تمنّيه". في أوراقها اليتيمة، بقيت هذه الجملة تتأرجح بين قطبَين متطرّفَين تنازعا حياتها: شدّة الألم وشدّة الغبطة.

لا تليق النصوص الثرثارة والأوصاف المدبّجة بناديا تويني. "ليس اسمي حكاية شموس أو أحقاد / ولا قصّة وجوه نسيها الله"، هكذا عاشت وهكذا ماتت، مجرّدة من العوالق الزائفة والنعوت الزائلة؛ وهكذا أرادت أن تحدّد معالم هويّتها وتؤطّر الهواجس التي عصفت بها وكوّنت تفاصيلها.
 
 
أمام صورتها، وفي لحظة صفاء وتجلٍّ، سألتُها "من أنتِ؟"؛ كانت ناديا لغزاً صعباً شغل المراهق الذي كنتُه، وأحجية لم أقوَ على حلّها، بل تماهيت معها. "هذا الزمن الضالّ الذي يمكثُ جامداً / برغم قصّة قديمة بينه وبين الخوف / إنّه أنا"، أجابت.

قبل نحو 59 عاماً، بدأت رحلة ناديا مع الشعر. في أحد الأيام التي تلت وفاة طفلتها نايلة بداء السرطان، دفعت بمفكّرة إلى زوجها غسّان، وكان الألم قد نهش كيانها، فظنّ أنّها كتبت فصولاً من مذكّراتها، غير أنّه فوجئ بقصائد نظمتها بالفرنسيّة وحمّلتها مشاعر الوجع ولوعة الفراق.
 

يروي غسان أنّه من أجل ناديا – المرأة التي نشأت في أثينا واستمدّت السحر من آلهتها – وقبل أيّ شيء، أسّس "دار النهار"، وفيها نشر ديوانها الأول، فوُلدت "النصوص الشقراء" ومعها القصيدة التوينيّة، والشاعرة التي عاشت ردحاً من الزمن قبل تفجّر الشعر الضامر في وجدانها وظهوره جليّاً.
 
 
سيرة ناديا تويني "تاريخ فراشة"، وفق زميلها نزار قبّاني، وجملة فصول من تراجيديا إغريقيّة بنهايات مؤسفة. فقد وُلدت في ظلّ برج السرطان الذي "طبع حياتها"، على حدّ قولها، وبعد إصابتها به، عاشت صراعاً نفسياً وهاجساً حادّاً، وسألت نفسها مراراً إن كان قابعاً في جسدها فأورثته لابنتها. تلك الفترة، وقد كانت النظريات الطبّية في طور البلورة، والعلم يتخبّط لتحديد ماهيّة المرض وسبل علاجه، كان التسليم بفرضيّة الوراثة مشروعاً. ظلّ صوت الطفلة الشقراء يُطارد والدتها... "لا أريد أن أموت!".

هذا الرعب الداهم تربّص بناديا الدوائر، وشكّل محوراً شعريّاً عزّزته النكسة والحرب الأهليّة اللبنانيّة، حتّى باتت "جائعة للموت"، وتمنّت "موتاً ناعماً كالهواء الناعم بعد المعركة". وكان لها ما تمنّت، بعد أن شهدت أهوال الخراب وزوال بيروت، مدينتها، التي سارت في شوارعها باكيةً، حتّى صرخت كاللبؤة الجريحة: "بيروت مدينتي، وفي حدا دمّرا. وكلّ ما فكّر هيك بحسّ فيّي إقتُل".
 
 
ناديا الدرزيّة التي شُيّعت أرثوذكسيّةً، سألت ذات مرّة: "هل أنا وليدُ كذب / في بلاد لم تُوجد؟"، وقالت بنفحة المؤمنة بالتقمّص والانبعاث: "رجعتُ بالأمس... كلّما رجعتُ وجدتُ أنّ بيروت قد تغيّرت مرّة بعد مرّة (...) بكرا أنا رايحة. رح إشتاق رح إشتاق".

ناديا الفراشة البيضاء التي غَفت فوق شلّال شعرها، حيث تغفو الفراشات المسحورة، أتمّت رسالتها التي لم تعرف موتاً وحقّقت ذاتها وبرّرت علّة وجودها، وسألت في أوراقها التائهة التي بقيت يتيمة: "ألم يأتِ المسيح إلى الأرض ليُصلب أساساً؟ ثلاثة وثلاثون عاماً أجردَ لإنجاز هذه اللحظة الفريدة: الوجود".
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم