الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

"مريانا المَرَّاش الفكرُ والشعرُ والوَتَر" لجوزيف إلياس كحّالة، بين الهامش والأصل

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الغلاف الخارجي.
الغلاف الخارجي.
A+ A-

هل للبحثِ الحديثِ فلسفةٌ؟ وما هي الفلسفة التي تكمن وراء كتاب "مَرْيانا المَرَّاش، الفكر والشّعر والوتر" لجوزيف إلياس كحّالة الصادر حديثًا ضمن منشورات "دار نعمان للثقافة"؟

بجهد كبير ومثابرة ظاهرة، كتب جوزيف كحّالة سيرة السّيدة المتألّقة مريانا المرّاش. إذا أحصينا المراجع التي جمع من خلالها السيرة والشخصيّات التي ذُكرت خلال السرد، يتأكّد لنا أنّه لملم الحقائق المبعثرة مع جميع تفاصيلها المتوفّرة، من مصادرها الأساسيّة - العربيّة والأجنبيّة- ومن المحفوظات، والمخطوطات، والمجلّات، والدوريّات، حيث كانت المسافة الزمنيّة للبحث من عام  1846م (تاريخ ولادة المرّاش) إلى عام 1919 م (تاريخ وفاتها). ما يعني أنّه اختصر ثلاثةً وتسعين عامًا من الحياة الاجتماعيّة، والأدبيّة، والفنيّة، والسياسيّة في مدينة حلب مسقط رأس صاحبة السّيرة.

صيغ هذا البحث بموضوعيّة لم تُهمِل أيَّ حدث، صغيرًا كان أم كبيرًا، فقد اِستند صاحبه إلى 82 مرجعًا و3 مخطوطات و22 مجلّة ودوريّة. وقد ظهر في الكتاب ما يقارب 46 صورة لأماكنَ ومستنداتٍ وشخصيّاتٍ عاشت في تلك الحِقبة من الزمن.

اللافت في الكتاب هو الهوامش في أسفل الصفحات، إذ أتت غنيّة جدًّا بالموادّ الأدبيّة والمعلومات عن عشرات الأعلام، والدوريّات والمجلّات والأماكن المذكورة في الصفحات استنادًا لعشرات المراجع. ندرت الصفحات التي لم تذيّلها هوامش، وفي أغلب الأحيان كانت المساحات التي شغلتها هذه الهوامش، أكثر بكثير من مساحة الأصل المخصّص للبحث، إذ احتلت ما يقارب ثلاثة أرباع الصفحات، وقد طُبعت بخط صغير، فلو كان حجم الحرف الذي استُعمِل للسرد في الهوامش بقياس مثيله في الصفحات، لزاد حجم الكتاب أربعة أضعاف. وهذا دليل على غنى الكتاب، ممّا يسهّل على القارئ الإلمام بالنصوص من كلّ النواحي، من دون الحاجة للعودة إلى مراجع من خارج البحث.

جاءت هذه الأعمال التأريخيّة في غالبيّتها، تجسيدًا لنهضة كبيرة في مدينة الشهباء، بالإضافة إلى حوادث مؤلمة كالهزّات الأرضيّة والثورات مثل (قومة حلب)، كما تضمّنت مآثر شخصيّات من آل المرّاش، مِنَ الجَدّ جرجي المرّاش إلى مريانا، ومَن خالطهم ومَن كتب عنهم، وجميع حكّام حلب وأساقفتها وكهنتها وشيوخها ومفكّريها وكتّابها وأطبّائها، وجميع الحوادث التي جرت في المدينة خلال الفترة التي تناولها البحث.

كلّ هذه الأمور، احتلّت الصفحات الـ 185 الأولى من الكتاب الذي حوى 358 صفحة (باستثناء المقدّمة المكتوبة باللغتين: العربيّةوالفرنسيّة) فيما كان ذكر مريانا المرّاش محدودًا في تلك الصفحات. لكن بعد الصّفحة 185 خُصِّص الكتاب للتعريف بها، وبفكرها، وأدبها، وشِعرها، وكلّ ما كتبه عنها الأدباء وورد في المراجع، كما ذُكرت مقالاتها المنشورة في مجلّة "الجنان"؛ وتُوِّجت نهاية البحث بديوانها "بنت فكر" الذي طُبع في بيروت في المطبعة الأدبيّة سنة 1893.

جاءت سيرة مريانا المرّاش متطابقة في جميع المراجع التي حوت نصوصًا عنها؛ فبعد عودتها من أوروبا وتعرّفها على الصّالونات الأدبيّة المُقامة هناك، افتتحت في مدينة الشهباء أوّل صالون أدبيّ في الشرق الأوسط، استقطب كبار أدباء حلب آنذاك.وقد أجمعت المراجع على ما تمتاز به هذه الأديبة من صفات عديدة باهرة، فهي كانت رائدة الصحافة الأولى عربيًّا، كونها أوّل امرأة نشرت عَمَلًا كتابيًّا في الصّحافة العربيّة، كما تعلّمت الموسيقى بدون معلّم، وأتقنت العزف على آلة البيانو الغربيّة الأرستقراطيّة، وآلة القانون الوتريّة، في زمن كان الاستبداد الفكريّ يحظّر الفنون بأنواعها ويحرّمها؛ وهنا يحضرني قول كانت تردّده جدّتي: "الرقص نقص، والغناني من خسوفيّة العقل"! وكانت مريانا أيضًا المرأة الشاعرة المرهفة التي تحلّت بالشجاعة على التعبير والتفكير شعرًا ونثرًا، وقد انتقدت نساء ذلك العصر، ودفعتهنّ للتمدّن الصحيح.

أهمّيّة الكتاب تكمن في أنّه أصبح مرجِعًا مهمًّا لآل المرّاش وإنتاجهم الأدبي - وخاصّة الأديبة والشاعرة مريانا - ومَن عاش في زمنهم وخالطهم، كما أنّه أرّخ لمعظم الأحداث التّي حصلتفي تلك الفترة؛ نورد بعض هذه الأحداث على سبيل المثال لا الحصر: دخول عادة التدخين إلى مدينة حلب، أهالي حلب يتعرّفون على البندورة وكانوا يسمّونها الباذنجان الإفرنجي، مدينة حلب تَستعمل بحذر زيت الكاز لإضاءة المصابيح، تاريخ تأسيس بلديّة مدينة حلب، فرش أزقّة المدينة بالبلاط، تواريخ انتشار الأمراض مثل مرض أبو الركب وداء (الهيضة) أي الكوليرا، خوف الناس من الخسوف الذي حصل عام  1902م حيث أخذوا يضربون على الطناجر ويطلقون الرصاص على "الحوت بلّاع القمر"، تدشين خطّ سكّة القطار الذي يصل حلب ورياق بلبنان، وأخيرًا  ليس آخرًا، فوز جريدة لسان الحال اللبنانيّة بقصب السبق في ظهور أول إعلان مصوَّر. وأحداث أخرى عديدة تتعلق بتواريخ بناء المدارس وغيرها من الصروح الدينيّة، وأهمِّيَّتها في نهضة لم تكن خجولة وزادها صالون مريانا الأدبيّ تألُّقًا.

 لا شكّ في أنّ كلّ عمل بحثيّ، يفترض فلسفة مسبقة، وخطّة فكريّة واعيَة، تؤدّيان  إلى إنجازه بطريقة فكريًّة إبداعيًّة وعلميًّة. قد تنبثق بعض الأعمال البحثيّة عن تجارب ذاتيّة عفويّة لا تخدم العلم، وتكون نتيجةل انسياق الباحثوراء غايات شخصيّة، إلّا أنّ هذا البحث اتّبع فلسفة تتمحور حول الظروف والأوضاع الاجتماعيّة والسيكولوجيّة، خاصّة أنّه اعتمد الوعي الإنسانيّ في جعله مقياسًا مطلقًا، وعمل على بلورة صِلات الوصل بين المنتديات والوسائل الأدبيّة التي كانت متاحة في الوطن العربي وخاصّة في سوريا ولبنان ومصر والعراق، وافترض وعيًا مسبقًا في جدوى وجود الفِكَر في زمن الانحطاط، فكان بحثًا مندفعًا بقوّة نحو استشراف نهضة أدبيّة جاءت بعد الزمن الذي تناوله البحث.

 كمنت فلسفة البحث في حركة التحرّر بالنسبة للمرأة العربيّة، وواكبت هذه الفلسفة الثورة الشاملة في الفكر والسياسة والمجتمع والأيديولوجيا، وكانت إيقاعًا لتحوّل المرأة العربيّة إلى الحضارة والتمدّن. فقد كانت واضحة مواكبة الكاتب لهذه النهضة بين الحلم والواقع واليأس، وانطلاقها مجدّدًا في سياق المغامرة الفنّيّة المتحرّرة، والأدبيّة الباهرة، التي أعطت المرأة العربيّة وزنها الوازن، من خلال فنّ وشعر وأدب مريانا المرّاش وغيرها من الأديبات.

 كلّ من يقرأ هذا البحث، يتيقّن من حقيقة كلام الناشر الأستاذ ناجي نعمان المدوَّن على غلاف الكتاب، حيث قال: "... وبذا يبرهن الكحّالة مرّة أخرى أنّه صاحب الفضل في نبش سيرة كلّ معسّل في تاريخ الفكر العربيّ الحديث، وفي استعادة أعماله".

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم