الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

قراءة في كتاب "اسبينوزا" لفؤاد زكريا

المصدر: "النهار"
الفيلسوف سبينوزا.
الفيلسوف سبينوزا.
A+ A-

صلاح الدين ياسين

كتاب من تأليف فؤاد زكريا (1927-2010) الفيلسوف المصري الراحل والذي يوصف بكونه أب "الوجودية العربية"، يعد هذا العمل بمنزلة سيرة ذاتية وعرض عام ومختزل لأهم الأفكار والمعتقدات التي اعتنقها الفيلسوف الهولندي اسبينوزا (1632-1677)، والتي تغطي مجالات الفلسفة والأخلاق والدين والسياسة، إذ سنحاول فيما يلي تكثيف أهم الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب.

 

آراء اسبينوزا في الدين والعقيدة

للإحاطة بشكل أفضل بفلسفة اسبينوزا، لا مناص من العودة إلى ظروف نشأته وحياته التي كان لها وقع كبير عليه، فقد ولد بهولندا لعائلة يهودية ميسورة الحال، وقد تلقى في صباه تعليماً أصولياً محافظاً، مما كان له نتائج عكسية على الفيلسوف الهولندي، إذ سيثور الأخير على جمود وتعصب الطائفة اليهودية التي كان ينتسب إليها، بخاصة أن هولندا كانت تعيش نسبياً في جو من التسامح الديني وحرية التفكير خلال تلك الفترة قياساً إلى باقي دول أوروبا. وبعد تعرضه للملاحقة والمضايقة من لدن الأتباع المتعصبين للطائفة اليهودية، سيغادر اسبينوزا أمستردام ويتجه إلى الريف ليتفرغ للفكر وينعم بالأمان.

وقد امتلك فيلسوف القرن السابع عشر آراء جريئة إزاء المسائل الدينية والعقائدية، مما أثار عليه نقمة كثير من معاصريه. إذ اعتبر بأن الوجود الإلهي لا يحتاج إلى أنبياء أو معجزات لإدراكه، بل إن الله يتجسد في الكون والطبيعة والعقل البشري، كما أنكر مجموعة من العقائد الأساسية في المسيحية مثل تجسد المسيح وتضحيته. ولم يقف اسبينوزا عند هذا الحد، حين اعتبر بأن الظاهرة الدينية هي ذات طابع بشري ولا تعد تعبيراً عن الإرادة الإلهية. ومن ثم فقد انكب على دراستها كأي ظاهرة تاريخية واجتماعية أخرى، وهو المنهج الذي طبقه على تفسير النصوص الدينية واليهودية على وجه الخصوص.

وعطفاً على ذلك، فصل اسبينوزا بين الدين والأخلاق على غرار جل فلاسفة عصر التنوير، إذ اعتبر بأن السلوك الأخلاقي والفاضل يحقق الغاية المنشودة من الدين حتى ولو لم يقم على أسس دينية. كما لم يفته التقليل من شأن الطقوس والشعائر الدينية، التي وإن كانت تفيد في تقويم سلوك عامة الناس الذين يتخذ تدينهم شكلا طقوسيا وصوريا، فإن خاصة الناس، أي ذوو العقول النيرة والمفكرة، ليسوا في حاجة إلى تلك الطقوس كي يكون سلوكهم مبنياً على أسس عقلية وأخلاقية.

نظرية الأخلاق عند اسبينوزا

يمتلك اسبينوزا نظرة نسبية عن الأخلاق، إذ ليس ثمة وجود لقيم أخلاقية مطلقة تضع حداً فاصلاً بين الخير والشر، طالما أنّ القيم الاجتماعية السائدة وقناعاتنا وميولنا الذاتية هي التي تحدد منظورنا للقيم الأخلاقية. وعلى سبيل المثال، فإن انخفاض سعر سلعة ما في السوق الاقتصادية يعد خيراً بالنسبة للمشتري، لكنه شر من منظور بائع تلك السلعة. ويمكن الإشارة أيضاً إلى اختلاف النظرة الأخلاقية إزاء أنماط معينة من السلوك من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى.

وبنظر مؤلف الكتاب، إذا كانت معظم المذاهب الفلسفية الكلاسيكية لم تتصور إمكانية قيام الأخلاق دون وجود إرادة حرة، فإن اسبينوزا يشكك في هذه الفكرة وينكر توفر حرية الإرادة لدى الإنسان، ذلك أن سلوك الأخير يظل محكوماً بإكراهات خارجية تحد من حريته. وقد تم انتقاد اسبينوزا بسبب الطابع الحتمي لنظريته الأخلاقية، فإذا كان الإنسان مسيّراً لا مخيّراً، ليس ثمة جدوى إذن من وجود مسؤولية وجزاء إلهي يتخذ شكل مثوبة أو عقاب بحسب منتقديه.

فلسفة اسبينوزا السياسية

يعد تمجيد الحياة الاجتماعية ورفض نمط العزلة والتشرد من أهم جوانب الفلسفة السياسية عند اسبينوزا، إذ يعتبر الأخير من ضمن الفلاسفة الذين ينظرون إلى الإنسان كحيوان اجتماعي لا يستطيع أن يكفي حاجاته بمعزل عن باقي أفراد المجتمع، ذلك أن الفرد لا يسعه ضمان حريته وتحقيق شخصيته الفردية إلا بالخضوع للقانون المدني الذي تضعه الدولة بغرض تنظيم المجتمع. كما يرفض اسبينوزا تقليص أدوار الدولة إلى حدها الأدنى كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة الليبرتاريين، حيث يسند إليها وظائف هامة بوصفها المسؤولة عن المستوى الأخلاقي والاجتماعي للرعايا.

وعطفاً على ذلك، يدافع فيلسوفنا عن الفصل بين الدين والدولة الكفيل بضمان حرية ممارسة جميع الأديان ودرء شطط وعسف رجال الدين. وهنا، يشير المؤلف إلى أن تصور اسبينوزا للعلمانية لا يقتصر على الفصل بين المجالين الزمني والروحي وعدم تجاوز كل منهما لحدوده الخاصة، بل إنه يدعو صراحة إلى خضوع رجال الدين إلى سلطة الدولة ومصالحها العليا، ففساد السلطة الزمنية يمكن التغلب عليه بتغيير الحكام، أمام ضرر السلطة الدينية فيكون وقعه أشد وطأة، نظرا لأن رجال الدين يغلفون معتقداتهم بطابع ألوهي مقدس يصعب محو آثاره من نفوس الناس.

كما عرف عن اسبينوزا دفاعه الشديد عن حرية الرأي والتفكير شريطة أن لا تتعارض مع الأمن والنظام العام. وبخصوص تصوره عن نظم الحكم السياسية، يرى الفيلسوف الهولندي أن الاعتماد على أمانة الحكام لوحدها غير كافية لضمان الحكم الرشيد والحرية السياسية للأفراد، إذ لا بد من وضع ضوابط خارجية تحد من سلطتهم، حيث يرى بأن النظام الديمقراطي يظل الخيار الأفضل لكونه يتيح فرص المشاركة المتساوية أمام الأفراد، وبالتالي يحد قدر الإمكان من الميول التسلطية لدى الحكام.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم