الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"البناء الموسيقي والدلالة": لا مجال لقصيدة النثر في ساحة الشعر

المصدر: "النهار"
جدلية الشعر (تعبيرية).
جدلية الشعر (تعبيرية).
A+ A-
يحيى عبد العظيم- شاعر وكاتب وصحافي وأكاديمي مصري
 
إذا كان الراحل، الدكتور علي عشري زايد، يقدم لهذه الدراسة بقوله: إن ربط الموسيقى بالدلالة مجال شديد الصعوبة، فإنّ صاحبة الدراسة تؤكد أن الموسيقى لم تعد "زخرفاً فائضاً في الشكل أو تطريبا فحسب، وإنما أصبحت جزءا لا يتجزأ من تجربة القصيدة الحديثة".
كان هذه مدخلاً لا بدّ منه قبل أن نواصل القراءة في كتاب الدكتورة عزة جدوع، أستاذة النقد الدبي بكلية الآداب جامعة السويس، والذي يحمل عنوان: "البناء الموسيقي والدلالة: دراسة نقدية في القصيدة الحديثة"، وقد استهلته بمقدمة ضافية تبرز فيها أن رواد القصيدة التفعيلة بدأوا حياتهم الإبداعية بكتابة القصيدة الخليلية الموزونة المقفاة، وأنهم لم يتركوا كتابتها عن عجز، بل إنهم قد أجادوا فيها؛ إجادتهم في القصيدة الحديثة، فسلكوا طريقهم في ثبات، فرأينا نازك الملائكة، والسياب، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وغير أولئك وهؤلاء ممن رادوا طريق قصيدة التفعيلة على مستوى العالم العربي.
 
إذ ترى أنّ العنصر الموسيقي في القصيدة ليس "قيداً بقدر ما هو ضرورة لنقل الحالات النفسية والشعورية عبر إيقاعه الخاص"؛ لأن الموسيقى تعطي للقصيدة حياة فوق حياتها، وألقا فوق ألقها، ومزيدا من الحيوية والانطلاق، فهي مدخل طبيعي لدراسة القصيدة الحديثة مع نسيجها الشعري: الصوتي والدلالي، ومن خلال المنهج التحليلي الذي اتخذته خطا لدراستها القيمة، فإن عزة جدوع انطلقت من القديم في الجديد؛ من الوزن الموسيقي الموروث واستخداماته في القصيدة الحديثة في مفتتح القصائد وخواتيمها، وذلك في الفصل الأول؛ لتصل إلى البحور ذات التفعيلات المركبة كالطويل والبسيط والخفيف والسريع والمديد والمجتث؛ خاصة الخفيف والبسيط اللذين كان لهما الظهور البارز في موسيقى الشعر الحديث خاصة عند كل من أحمد عبد المعطي حجازي وفاروق شوشة، والمزج بين تقليدية القصيدة وقصيدة التفعيلة في الشكل الإبداعي الذي راود رواد هذه القصيدة، فارتادوا طريقه عن تمكن واقتدار منهم؛ لا عن عجز كما نرى كثيرين من هؤلاء وأولئك الآن.
 
غلاف الكتاب.
 
وهي مع التزامها بالمنهج التحليلي؛ تقدم من خلال المنهج الإحصائي بحور الشعر التي شاعت في دواوين كبار هؤلاء الشعراء بدءا بـ: بدر شاكر السياب في ديوانه "أزهار وأساطير" الذي شغل فيه كل من الكامل والمتقارب والرمل نسبة تزيد على ربعه بقليل في حين يتصدر بحر الوافر ديوانه "شناشيل ابنة الجلبي" بنسبة 29% من أوزانه، ونستطيع أن نعد صلاح عبد الصبور من الرجاز في ديوانه "الناس في بلادي" الذي مثلت فيه موسيقى بحر الرجز نسبة تزيد على الـ56% منه؛ في حين تمثل موسيقى خبب المتدارك نسبة أكثر من 72% في ديوانه "أقول لكم"، و50% من ديوانه "الإبحار في الذاكرة".
 
أما مدينة حجازي التي بلا قلب، فقد، فيتقدم فيها الشاعر الراجز على بقية البحور بنسبة 56%، وفي "أشجار الأسمنت" يتصدر المتدارك بنسبة 26%، أما فاروق شوشة فإن ديوانه "إلى مسافرة" يتصدره الرجز بنسبة 43%، ومحمد إبراهيم أبو سنة في "قلبي وغازلة الثوب الأزرق" 62%، وتصدمنا الإحصائية بأن بحر المتدارك قد طغى طغيانا كبيرا على ديوان أمل دنقل "الغرفة رقم 8"، وذلك بنسبة تقترب من 92%، أما حسن طلب فيمثل الرجز نسبة 28% من ديوانه "وشم على نهدي فتاة"، يليه الوافر بنسبة 25%، وتغلب تفعيلة الكامل على ديوانه "لا نيل إلا النيل".
 
لقد اقتنع الشعراء والنقاد على السواء بأن ركوب البحور المركبة يعوق حركة الشاعر ويقيده، ولا يجعله ينطلق في مواصلة كتابة قصيدته؛ لأن هذه البحور تحتاج التزاما ثابتا ونظاما صارما، وهو ما يتحكم فيه ويعرقل انسيابيته الشعرية، وهو ما دفع الدكتور عز الدين إسماعيل إلى القول: إن تنويع التفعيلات لا يتيسر إلا في الشعر التقليدي، أما في القصيدة الحديثة، فإن الشاعر يصطدم "بضرورات لا مبرر لها نفسيا في ذلك الإطار"، وتخلص الدكتورة عزة جدوع إلى أن علاقة التداخل هذه التي ولجها بعض الشعر مزاوجة بين البحور الصافية والبحور المركبة ما هي إلا هدر كبير للحظة الإبداع، فـ"التجديد الحق هو الذي تفرضه التجربة الشعرية ذاتها، وليس سعي الشاعر وراء بريق الريادة".
 
أَقفَرَ مِن أَهلِهِ مَلحوبُ فَالقُطَبِيّاتُ فَالذَنوبُ
 
وإذا كانت قصيدة عبيد بن الأبرص ذلك الشاعر الجاهلي الذي عاصر امرأ القيس؛ قد شهدت ذلك المزج والتداخل الموسيقي بين: مخلع البسيط والبسيط والرجز والسريع، فيها وفي غيرها من القصائد القديمة لامرئ القيس وللمرقش الأكبر، فقد فعله أحمد شوقي في مسرحياته الشعرية، ومن تبعه من شعراء العصر الحديث في هذا الأمر، ونحن ولا شكَّ رأينا هذه المزاوجة وذلك التداخل بارزا في موسيقى القصيدة العربية الحديثة التي رادها أوائلها في قصائدهم.
 
وما بين المزج الموسيقي في إطار البحر المركب الواحد، إلى المزج بين بحرين وثلاثة بحور، وغير ذلك مما رصدته عزة جدوع في هذه الدراسة الثرة والموسيقى الخارجية التي تعلن عن نفسها في شعرنا العربي قديمه وحديثه، وفي شعر التفعيلة، نجدها تأخذنا إلى اتجاه آخر وهو اتجاه الإيقاع الداخلي، وإذا كانت القصيدة الحديثة قد فقدت عنصرا إيقاعيا مهما وهو تفعيلات الشطرين، فإنها لا شكَّ قد انشغلت بتكثيف الجانب الإيقاعي الذي يتمثل في: تجانس الأصوات، والتناظر الإيقاعي بين بعض الكلمات أو العبارات، وظاهرة التكرار إضافة إلى بعض الظواهر اللغوية الأخرى التي أصبحت سمة من سمات قصيدة التفعيلة.
 
كاتب المقال.
 
إن شعراء القصيدة الحديثة الذين حاربوا القافية؛ هم أنفسهم الذين أحسوا "بحاجتهم إلى إيجاد نوع من التقفية، ولا يستغنون عن ذلك مهما بلغت مراتبهم، وهذا ما نراه واضحا في "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" لأمل دنقل، وغيره من الشعراء المجايلين له، والسابقين عليه، بل وكذلك عند الشعراء اللاحقين، وهو ما جعل من "التضمين" الذي يحدث في القافية ـ وهو عيب عند النقاد القدامى ـ ميزة عند شعراء التفعيلة؛ لأنه متمم للمعنى ومكمل له، ويمثل دوريا جوهريا ودلالاتيا في استخدامه لدى هؤلاء الشعراء.
 
لقد استحدث الشعراء زحافات وعللاً جديدة غير تلك التي أباحها النظام الخليلي الصارم، وهو ما أعطى القصيدة حركية وانسيابية ساهمت في التشكيل الدلالي والجمالي والموسيقي لهذه القصائد، فاستخدموا المباح، واستحدثوا غير المباح بما يزيد القصيدة نغما داخليا، وإيقاعا جماليا؛ يعوضها عن موسيقى الوزن والقافية الذي أصبح معدوما أو شبه معدوم في الشعر الحديث، والذي وصل في بعض الأحيان إلى الخروج على موسيقى الشعر؛ لتتأسف نازك الملائكة، فقد أصبح "النادر اليوم في قصائد الرجز هو التفعيلة السليمة".
 
وما بين مؤيّد ومعارض من النقاد لإيقاع القصيدة الحديثة، فإن الحقيقة الواضحة هي غياب النقد الحقيقي الذي يعمل لوجه الشعر والإبداع الحقيقي؛ حتى خلت القصيدة من الوزن والقافية؛ وصولا إلى قصيدة النثر، وترى عزة جدوع أن "التمرد على موسيقى الخليل قد أتاح لكثير من الدخلاء الولوج إلى الساحة الشعرية بغير ضوابط أو قيود" مؤكدة أن "أي فن راقٍ لا بدَّ أن يتمتع بقدر من النظام والثوابت التي عن طريقها يمكن التفريق بين مبدعي هذا الفن والدخلاء عليه، فما "يطلقون عليه الآن (قصيدة النثر)؛ أطلق عليه سابقا (الشعر المنثور)، ومن رواده: الريحاني، جبران، حسين عفيفي وغيرهم"، و"بنظرة سريعة إلى النقد الذي صاحب الحركة الشعرية عبر عصورها المختلفة؛ نجد تدنيا ظاهرا في حركة النقد المعاصر"، وتصل عزة جدوع في نهاية كتابها إلى حقيقة مهمة؛ إذ تقول إنه:"لا غنى للشعر أيا كان نوعه عن الوزن والقافية حتى يكون الكلام شعرا لا نثرا، ولذلك لم يعد لقصيدة النثر مجال في ساحة الشعر".
 
والسؤال الملح هنا: هل ما زالت الدكتورة عزة جدوع على هذه القناعة من أنه لا مجال لقصيدة النثر في ساحة الشعر؟!
هذه ما ننتظره في مؤلفاتها النقدية المقبلة.
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم