فارس ساسين.
شبلي ملّاط
حول كتابات فارس ساسين في حوار بمشاركة مارلين كنعان وإدارة رشا الأمير
في إنصاف التاريخ لمكانة فارس ساسين اللبنانية والعربية والعالمية، أبدأ بإماطة اللثام عن هذا السرّ المواكب المثقف فلسفةً وأدباً وتاريخاً في اللغتين العربية والفرنسية، أي سرّ عدم الكتابة أو التلكؤ عنها من شخص كان الكتاب جليسَه اليومي، ونَشَر العشرات من المؤلفات في دار النهار، واقتنى مكتبة تشبه اللامتناهي في مكتبة بورخس.
بصدور الكتب الثلاثة هذا الشهر – "كتابات" عن دار شرق الكتاب وكتابان Essais وLectures عن دار L’Orient des Livres – انجلى بعض السرّ لكونه خطأً. فلا سرّ بعد اليوم بوجود الكتب الثلاثة هذه، وما قد يُحْفظ لاحقاً من الضياع، وما هو متوفّر، وغير منشور، أعني دراسته عن الفكر الماروني المعاصر في أطروحة لا أظن، ولا يظنّ أحمد بيضون في تقديمه الوافي للكتاب، أنّ من الضروري إضافة كلمة إليها بما تجمّع من مصادر رفيعة وتحليل متعدّد الطبقات. ثلاثة كتب إذن، وقد أمضيت الشهرين الماضيين في صحبتها، أكثر من ألف صفحة بالفرنسية، والكتاب العربي موضوع حوارنا.
إذن كان السرّ ليس سرّاً، لكن فارس كتب وتردّد عن النشر، هو وليّ أشهر دار نشر في الشرق لمـّا أشرف عليها مع نديمه غسان تويني. فجواباً على لومنا له في بخله على الجمهور برفض جمعها، لهذا البخل تفاسير عدّة، منها المواربة الملازمة لروح النكتة عنده، يعني أن سببَ رفضه نشر هذه البدائع تحجيمُه لسخافة الخلود، ومنها إطراق العالم المتواضع أمام السائل الجاهل، ومنها ما صنَّفه هو نفسه كسلاً أو خمولاً في الألفبائية المنشورة في الجزء الأول من كتاباته الفرنسية، ‘Paresse’: «الأمر الوحيد الذي قد أستحق أن أدخلَ التاريخ بسببه هو الخمول، يعني الخطيئة الكبرى التي منعتني الدخول في التاريخ».
عندي تفسير ثالث، أو رابع كما شئتم. فالموضوع لم يكن عدم الكتابة وقد كتب وأبحر في كتاباته، ولم يكن مداعبةً، ولم يكن كسلاً. فارس ساسين يذكرني بباروخ سبينوزا، فأغلب كتابات سبينوزا لم تُنشر في حياته، وهي أهمُّها حقيقة، الأتيق (الأخلاقيات) ورسالة السلطة السياسية Tractatus Politicus ، وكان قد نشر رسالة أخرى شهيرة، الـTractus Theologico-Politicus ، رسالة اللاهوت-السياسي من دون اسم للمؤلّف، وهو العارف أن مجتمعه غير قادر على استيعاب مفهوم الله في الأتيق، ومفهوم الشعب السيادي في الرسالتين. بل الأهم أن سَبْق سبينوزا كان أيضاً في قناعته بأن كتابيه غير المنشورين ناقصان، بمعنى أنه كان دائماً بصدد تحسينهما. هو البحث عن التمام، وليس خشيةَ النشر، جعل صدور أهمّ سفرين كتبهما سبينوزا بعد غيابه عام 1677.
استنتاجي هو التالي:
النقص عن التمام هو عنوان التأخير في إدراكنا لمكانة ساسين الادبية في التاريخ، والنقص عن التمام ليس في عين القارئ، فمن قرأ كتاباته في الفرنسية والعربية يعرف أنهما تخطّيا أيّ نقص بسنوات من الإشعاع، وأن الإحساس بالنقص عن التمام كان يطال الكاتب فقط، والنقص وحدَه هو يراه.
كتابات فارس ساسين ليست كلّها سهلة المنال، تتطلب أحياناً قراءة جاهدة lecture endurante، وتحتاج الى يقظة ودقّة. من المستحيل الحديث عن هيغل أو أفلاطون بشكل مبسّط، وقراءتهما حتماً شاقّة جاهدة. لذلك نركن مراراً الى مفسّريهم، وتفسير مفسّريهم، مثلاً هيغل قارئاً كانط أو الفلاسفة ما قبل سقراط، ودلوز قارئاً سبينوزا، وسبينوزا قارئاً ديكارت.
يجد القارئ في الكتاب العربي قراءة فارس ساسين لفلسفتين صعبتين، الفلسفة الإغريقية وفلسفة الأنوار، وبتحديد أدقّ، فلسفة أعظم إغريقيَّين، أفلاطون وأرسطو، وفلسفة أبرز روّاد الأنوار، إيمانويل كانط وج. و. ف.هيغل.
أركّز هنا فقط على براعة فارس ساسين في تناول الفِكر الأصعب، وهو نظام هيغل الفلسفي. فالمحاضرات التي يجدها القارئ في كتابات تمثل مدخلاً لمجمل فلسفة هيغل عبر طريقين: طريق شامل يعطي النظام حقَّه في تسلسله منذ الدراسات المسيحية في الشباب الى فلسفة القانون (1821) فالمحاضرات عن الاستيتيك (الجماليات) وعن تاريخ الفلسفة – (وعندي أن الأجزاء الثلاثة التي تغطي تاريخ الفلاسفة من البابليين الى كانط لا تزال أفضل ما كتب في هذا الحقل الموسوعي). والقسم الأول من كتابات يسمح لنا بأن نتابع هيكل الفلسفة الهيغلية عبر أهم محطّاتها، مع ما يرافق التعبير الهيغلي من ترجمة عربية مستعصية. هذا الطريق الأول، وهو هيكل ارتفاع الفيلسوف الألماني في رسم فلسفته العامة من روح الفرد في فينومينولوجيا الروح، الى روح الجماعة في علم المنطق الى روح الطبيعة في موسوعة العلوم الفلسفية، الى روح الدولة في فلسفة القانون.
ولا يقتصر السَّرد على الإحاطة الإجمالية هذه، وهي طبعاً أكثر دقةً من تبسيطي لها، بل يشمل أيضاً محطات تفصيلية في قلب أسفار هيغل الواسعة، أذكر منها الصفحات الشهيرة، في فينومينولوجيا الروح، عن جدلية السيد والخادم التي يتناولها ساسين ببعض التفصيل.
يقول ساسين "السيد والخادم"، وليس كما اعتدنا عليه، "السيد والعبد"، والترجمة أصح فالـKnecht بالألمانية ليس العبد، بل الملازم المأمور المطيع والصائع، حَوّله هيغل في جدليته الى شرطٍ لكينونة السيّد بوجود كليهما في ارتباط عضوي لا غِنى لأيّ منهما عنه إطلاقاً.
هذا المقطع الشهير للفيلسوف الألماني في أول كبار كتبه تكاثرت تفسيراته وتعدّدت مآثره، ومن أهمها ربط فكر هيغل الأساسي بنظام التضاد الجدلي في مقولة تجرّ نقيضها ليرفع تعاليهما في الـAufhebung. يقول ساسين:
"أما مع هيغل، فألتقي في صميم الجدلية العقلية التي تسعى الى التماهي مع جدلية الوجود. فالمعرفة تقوم بالتأكيد، ثم النفي، ثم أخيراً وحدة التأكيد والنّفي في الـaufheben-Aufhebung، الذي يُبقي البعدين (التأكيد والنفي) ويتخطاهما".
وفي أمكنة أخرى من كتابات، يترجم ساسين الكلمة ’بالفكر الخالص‘، كما "الآن معاً"، كما يترجمها أيضاً بـ’الاستيعاب‘.
لَسْتُ خبيراً بهيغل، إلا أنني أقرأه بلذة لا تضاهيها لذّةٌ لما في كل جملة ببحره من إبداع وعمقٍ ونظام، أعني نظام الفلاسفة كما في منهج méthode ديكارت. وعلى علمي، لا مكان لتناول هيغل مفهوم الجدلية في كتاباته أشهر من جدلية السيد والخادم في فينومينولوجيا الروح.
يعطي ساسين الصدارة في الجدلية الهيغلية الى الموت. فالموت في قراءته لهيغل هو المرحلة التي تشكّل منتهى التعالي أو التخطي أو الاستيعاب أو الفكرة الخالصة، أي منتهى الـAufhebung.
فلنتابع قليلاً تحليل ساسين في تسلسل منا بالترقيم أملاً بمزيد من الوضوح (الاقتباسات من ص 91 الى 95):
1. "تشكل مواجهة الموت تجربة أساسية في تحوّل الإنسان الى إنسان، في انتقاله من كائن حيّ الى كائن يدرك ذاته".
2. "ويصبح الإنسان وعياً ذاتياً لأن وعياً ذاتياً آخر يقرّ به". "عندما أجازف بحياتي، أثبت للآخر، ولاحقاً لذاتي، أنني لا أعير الحياة اهتماماً وأن الحياة ليست جوهري، وأنني نتيجة ذلك، متعالٍ عنها".
3. هنا يستشهد بهيغل: "هاتان اللحظتان لازمتان". واللحظتان هما أنّ "يُقرَّ بالأول ويصبح سيداً ويخضع الثاني لمشيئة السيّد ويصبح خادماً".
4. "يظهر انتصار السيّد للوهلة الأولى كاملاً: أصبح السيّد وعياً بالذات وأظهر أنه يتخطّى الحياة وأنه لا يخشى الموت".
5. "لكن الجدلية تقلب الأمور رأساً على عقب، وتُبيّن خداع المظاهر: فلا السيد سيّد ولا الخادم خادم بل إن الخادم هو سيّد السيّد وحقيقته".
6. "في الخوف من الموت، يبطل الخادم شيئاً ليَحُلّ فيه النفيُ الخالص. وهكذا نعود الى نقطة البداية، أي النقطة التي انطلقنا منها مع قول هيغل: ’النفي أي الحريّة، أي الجريمة‘. الخوف من الموت يجعل الموت في داخل الإنسان ويحوّل الخادم الى موتٍ نافٍ".
وفي النهاية: "وهكذا تمرّ خبرة ’الوعي‘ بمواجهة الموت عبر الآخر، وبمواجهة الآخر عبر الموت، وبتكامل الخوف والخدمة والعمل".
خاتمة
الوقت دائماً داهم لقارئ كتابات ساسين.
تناولت في هذا الحديث مظهرين فقط من فكْره الوهّاج، لأركّز أولاً على ما جاء في مقالة حديثة عنه في الـOrient Littéraire عن حتمية الأبحاث العديدة عنه لما في كتاباته من تنوّع وعمق، وبِدَعٍ بديعة تضفي قيماً مضاعفة لمن غاص فيه.
وفي الكتب الثلاثة التي صدرت في شهرٍ واحد، باتت المادّة المكتوبة كنزاً من الأسئلة والفتوحات التي تحتّم العودة الى نصوصه مراراً وتكراراً في لذّة اكتشافها لتفسيرها وتفسير تفاسيرها.
المظهر الثاني من الحديث نطفة في بحر التأويل الذي يفرضه ساسين علينا في كتاباته. لست مقتنعاً مثلاً بأن جدليّة السيّد والخادم في هيغل مرتبطة بالموت ذاك الارتباط الوثيق الذي يراه فارس؛ إلا أن قراءته لها من منظار الموت مقاربة أخالها جديدة في عالم الفلسفة، ومتينة في قوّة ساسين الفكرية في تفسيرها.
وهكذا نجد في تناوله أحد أشهر المقاطع من فلسفة هيغل، إعادة قراءة جدلية تجعل هيغل يختم في تمام الموت رحلةَ الإنسان الى الوعي.
بل إن ساسين، كما هيغل، لا يمكن حصره بمثل هذا الإتمام أو الخاتمة، فهذه الخاتمة-التمام تبقى مرحلية.
من أجمل ما أذكره من أحاديث الصداقة مع فارس بيت لروني شار، الشاعر الفرنسي الذي أظن أن ساسين اصطفاه أعظمَ شاعر معاصر، والبيت يقول:
‘La poésie m’a volé ma mort’
"لقد سرق الشّعر موتي".
تذكّرت هذا البيت على خطى تحديد فارس ساسين للكسل:
"هو الأمر الوحيد قد أستحق أن أدخل التاريخ بسببه، يعني الخطيئة الكبرى التي منعتني الدخول إليها".
في الجدلية الساسينية يشكل الخمول، الكسل، اللحظة الأولى التي تليها اللحظة الثانية، لحظة النفي، ونذكر قول هيغل عن تلازم اللحظتين، فلحظة النفي في الكتب الثلاثة التي باتت بين أيدينا، تشكّل التعالي، أو التخطي، أو الفكر الخالص، أو"لآن معاً"، وهي سرّ كسل ساسين في خطيئته الكبرى، أي الكتابات التي جَمَعتها ابنتاه وأصدقاؤه.
وفي نفي الكسل تعالٍ جديد جعل الأوفْهيبونغ بهذه الكتابات "سارقةً موتَه".
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
المشرق-العربي
12/11/2025 6:15:00 AM
قذائف المزّة والعمليتان اللتان لم يفصل بينهما شهر تحمل رسائل تحذيرية إلى الشرع وحكومته، والرسالة الأبرز مفادها أن القصر الرئاسي تحت مرمى الصواريخ.
المشرق-العربي
12/11/2025 2:25:00 AM
إنّها المرة الأولى التي تتهم المنظمة "حماس" وفصائل أخرى بارتكاب جرائم ضد الانسانية.
المشرق-العربي
12/11/2025 2:10:00 PM
شدد على ضرورة منح المحافظة حكماً ذاتياً داخلياً أو نوعاً من الإدارة الذاتية ضمن سوريا كوسيلة لحماية الأقليات وحقوقها.
اقتصاد وأعمال
12/11/2025 10:44:00 AM
تكمن أهمية هذا المشروع في أنه يحاول الموازنة بين 3 عوامل متناقضة: حاجات المودعين لاستعادة ودائعهم بالدولار الحقيقي، قدرة الدولة والمصارف على التمويل، وضبط الفجوة المالية الهائلة التي تستنزف الاقتصاد
نبض