الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"مطر خلف القضبان" لميرنا ريمون الشويري: عذرية روح وظلم مجتمع

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
غلاف الرواية.
غلاف الرواية.
A+ A-

باحت قضبان السّجون بألم ساكنيها إلى يراعة ميرنا الشويّري، فكان حبرها مطراً، روى بقصصه جدب العقول، حين بحثت، عن سلامٍ لحيواتٍ في تفاصيل مدوّنة على صفحات روايتها "مطر خلف القضبان".

للمساجين، داخل السّجون الضيّقة، خلافاً لأخبار سكّان السّجون الكبيرة التي هي الأوطان، روايات متناقلة. منها ما كُتب داخل السّجون، ومنها ما كُتب عن السّجون، وأغلبها لم يُكتب. وبما أننا نعيش في أوساط مليئة بالمساجين السّياسيين وغير السّياسيين الّذي أُعتقوا، أو ماتوا داخل السّجون، فيمكننا القول بأنّ ذاكرتنا، مليئة بقصص عذاباتهم أكثر من قصص أفاعي الوعر، وثعالب الكروم. فعندما تتفتّح قريحة الحديث عن السّجن عند سجينٍ قديمٍ، تصبح الفترة التي قضاها في سجنه لبّ الحياة الذي جعل الماضي يتقزّم، واختزل المستقبل بلحظة الحريّة. لكن يوماً ما سيزول تناقل هذه الأحاديث، وتبتلع أفواه الزمان الذكريات. والّذي سيبقى هو الّذي دُوّن في وثائق أو روايات؛ ومن ضمنها رواية "مطر خلف القضبان".

السّجن والحبّ بطلا هذه الرواية. عن سجنٍ خانقٍ، لم تدخله الشمس، تنزوي السّجينات فيه، وتنتفي مفاهيم الإنسانيّةّ ومفاعيلها، حدّثتنا ميرنا الشويّري؛ سجن ليس مجرّد مسكن لمن يستحقه، إنّما هو أيضاً منفى لنساء بريئات، قتلهنّ حكم المحاكم المضلَّلة -وما أكثرها في هذه الأيام- نبذهنّ مجتمع لم يعدنَ ينتمين إليه، وظلمهنّ عالم ما هو بعالمهنّ داخل السّجن وخارجه.

عن حبٍّ ووصلٍ خياليٍّ حدّثتنا الشويريّة، صحيح أنّ حكايا الحبّ كانت وستبقى أحلى الحكايا، وأحبّها إلى قلب الإنسان، منذ تكوّن الوعي، لكنّ حب ماري وأنور الشخصيتين الأساسيتين في القصّة، حافظ على عذريّة الروح؛ هذه العذريّة التي حملتها ماري بجسدها، هاربة من زواجٍ لم تُعقد أزهاره، لم تكن عائقاً أمام الوصل العذري الذي لم يخدش الروح في حبّها مع أنور؛ وكان المطر شاهداً على كلّ صدقٍ في كلّ لقاء بينهما، فهل أنّ الشتاء ابتلع الفصول بحضور الحبّ، أو أنّ الحبيبين أرادا أن يكون حبّهما حلماً في غابات المطر؟ أو هل يمكن أن يكون المطر البطل الثالث للرواية بالإضافة إلى السّجن والحبّ، أم يبقى الشّاهد الوحيد الذي لا يمكن استدعاؤه أمام محاكم آلهة العشق؟، "لكن ركضت بسرعة إلى غرفتي حتى لا يتبخّر حلم المطر" (صفحة 17).

أجمل ما في الرواية هو الغوص فيها عندما نقرأها، وحين نحاول تلخيصها، تصبح حكاية نساءٍ ارتكبنَ هفوات وأخطاء غير متعمدّة، أو جرماً نتيجة تأثير جنون المجتمع الّذي خلقته التقاليد. فهذا المجتمع الشرقيّ المغلق، هو المُدان بتهمة قتل الدين والإنسانيّة عمداً، ومع سابق إصرار وتصوّر. ونظراً للسلوك العام الّذي يجعل تصرّفات هذا المجتمع غير مفهومة، خارجة من وراء أقنعة عديدة، يصبح البريء التّصرّف مظلوماً ومُداناً ومسجوناً؛ فهل أنّ الرّوايات وحدها هي المحاكم الصالحة لمحاكمة المجتمعات، وهل أنّ أحكامها مبرمة؟. فلطالما كانت الأحكام الصادرة عن الأدب والأدباء، تعرّي الأحكام الجائرة الصادرة عن الحكّام بواسطة القضاة التابعين لهم.

روت ميرنا الشويري قصص سجينات نُفين من المجتمع المملوء بالتحرش والاغتصاب خارج السجن، فكانت محاولات اغتصابهنّ من قبل بعض السجينات داخل السجن لهنّ بالمرصاد، فهل من مكان آمن على وجه الأرض؟ وكيف يسيطر المجتمع الذكوري الشرقي في أماكن لا يتواجد فيها سوى النساء؟ وما قصّة (الهامبرغر) التي كانت ثمناً بخساً لمتعة الدركّي مع إحدى السجينات، في سيارة النقل المخصّصة لهنّ -وهي قصّة، من ضمن قصص عديدة، وردت خلال السرد- إلّا دليلاً واضحاً على هذه السيطرة.

وبعد، إنّ رواية "مطر خلف القضبان" تستحق أن تُقرأ، لأنها تثير في النفس أحزاناً وتساؤلات، أكثر من تلك التي يثيرها ظلم سجن، وتسببها خيبة حبّ. لم تستعمل ميرنا الشويري المحبرة بندقيّة لفرض شريعة خالية من الرحمة، فالأدب الهادف كأدبها ضرورة اجتماعيّة. وإنّ الأدب المعاصر بأكمله، لا يمكن إلّا أن يتحول إلى أدبٍ مقاوم لكلّ مفاهيم المجتمعات البائدة، وإلّا انقرض مع أصحابه.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم