السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"آل فايبلمان" لسبيلبرغ: الطفل الحالم بالسينما أصبح سينمائياً يحلم بالطفولة

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
غبريال لابلّ مجسّداً دور سامي في "آل فايبلمان".
غبريال لابلّ مجسّداً دور سامي في "آل فايبلمان".
A+ A-
يقول ستيفن سبيلبرغ في مقابلة ان منصّات العرض التدفّقي أخذت مجدها خلال الجائحة. يعبّر عن حزنه لأن عدداً من السينمائيين الكبار من أصدقائه باتوا يفضّلونها على الصالات. موقف صاحب "لائحة شندلر" كان واضحاً منذ البداية وهو موقف مطابق لرأي صديقه فرنسوا تروفو يوم انتشر الفيديو وبات يهدد الصالات. هذا الموقف هو الآتي: الفيلم السينمائي انوجد ليُشاهَد داخل صالة. نقطة. فهو من جيل يقدّر ذلك، يعرف الفرق بين أشكال المشاهدة المختلفة. سبيلبرغ "عثر" على السينما في الصالات، خلال الخمسينات، حقبة كان الجلوس فيها أمام الشاشة مع آخرين شكلاً من أشكال الاحتفالية. من تلك البقعة المظلمة خرج النور إلى العالم وأضاء عالمه هو بالذات. يعرف سبيلبرغ وأبناء جيله احساس ان نكون أمام لوحة تتحرك عليها الأشياء والناس؛ لوحة تتجاوز حجماً أضعاف حجم مَن يجلس أمامها. انه الاستئثار بالمُشاهد الذي هو حكر على المكان المغلق المنعزل عن العالم الخارجي حيث لا يعود أي شيء مهماً سوى الأحداث المعروضة أمامنا. ومهما كبرت الشاشة المنزلية فلن تمتلك السطوة نفسها والتأثير ذاته. لا علاقة للأمر بتجربة المشاهدة الجماعية التي يحاجج بها البعض دفاعاً عن الصالة. فمن الجائز ان يشاهد الواحد منّا فيلماً وحده في صالة فارغة تماماً وتصله حقوقه السينمائية كاملة. فقط الاحساس بأن السينما شيء "أوسع من الحياة” (ما إن تنطلق تلك الحياة الافتراضية على الشاشة حتى "يستحيل" وقفها)، هو ما يصنع الفرق بين المشاهدة السينمائية وباقي أنواع المشاهدات التي سادت في السنوات الأخيرة. المسألة محض تقنية. هي كفاءة وسيط في تجاوز كفاءات وسائط أخرى. لم يفعل سبيلبرغ طوال سيرته سوى تمجيد الشاشة. أفلامه كلها صنعها للشاشة. سواء عندما يصوّر قرشاً يلتهم ضحاياه أو ديناصوراً ينشر الفوضى أو سائقاً يطارد سيارة أو مجنّدين يواجهون الرصاص باللحم الحي أو عندما يفتح الصبي الباب فيشعّ الضوء البرتقالي من خلفه، أو حتى عندما يقع الخاتم من يد المنقذ لحيوات الآلاف وصولاً إلى تحوّل أرصفة نيويورك مسرحاً للرقص، فسبيلبرغ الذي خلق البلوكباستر الذكي اللماح الحميم، أنجز دائماً سينما للشاشة الكبيرة. 
 
أول دخول لسامي إلى السينما مع والديه (ميشيل وليامز وبول دانو)

"الـ"سينما بألفها ولامها 
هذه المقدّمة لا بد منها للقول كم ان فيلمه الأحدث، "آل فايبلمان” (*)، يأتي من هذا الهاجس ومن هذه الرغبة في التحدّث عن "الـ"سينما بألفها ولامها. هناك سينما كانت في زمن سابق تجعل المشاهدين يحلمون، يتماهون مع الأبطال، يعيشون حيوات بالاستعانة، تلك التي كانت مصدر بهجة وسخط وسعادة وألم. تلك التي كانت تملأ الصالات أيام الآحاد. زمن آخر، ناس آخرون أضحى بعضهم تحت التراب، وبعضهم الآخر لا يزال يطل برأسه من تحت التراب. يستهل سبيلبرغ فيلمه، وهو الأكثر حميميةً وشخصيةً في سيرته، في واحدة من تلك الصالات. هناك في حياة كلّ فنّان لحظة عودة إلى الجذور والذات ولحظة التأسيس. سينطلق الفيلم ومعه حكاية الصبي سامي فايبلمان (غبريال لابلّ) الذي سيصبح أحد أعظم مَن وقفوا خلف الكاميرا. كلّ شيء يبدأ بقطار. القطار الذي قال جون فورد في مقابلة له مع بيتر بوغدانوفيتش بأنه وصل إلى هوليوود على متنه. يصطدم القطار بسيارة، ثم بمقصورات قطار آخر، مثيراً خوف ودهشة سامي الذي يصبح واضحاً منذ البداية بأنه صدى للمخرج. هكذا بدأت حكاية غرام سبيلبرغ بالفنّ السابع: داخل السينما، سينما ضخمة بمقاعد كثيرة، وتحت قبّتها، التي لن يغادرها لحظة. انه مطلع الخمسينات، والفيلم الذي سيأخذه والداه لمشاهدته والذي يتضمن المشهد المذكور هو "أعظم عرض في العالم" لسيسيل ب. دوميل. في السيارة التي ستحمل سامي إلى المنزل، بعد اكتشافه للاختراع الذي سيغير حياته، تسأله أمّه أي مشهد هو المفضّل لديه. فتبقى عيناه معلّقتين في الفراغ، وكأن ما شاهده طبع بؤبؤه إلى الأبد. شعوره في تلك الليلة ما هو سوى مزيج من الخوف والإثارة. سيحاول اعادة خلق تلك اللحظة أمام كاميرا يستعيرها من والده. تكرار مشهد القطار إلى حد الهوس، فيه كلّ مكونات الإخراج الذي سيتحوّل سبيلبرغ إلى أحد أسياده: الإيقاع، الإبهار، التشويق، الاقناع. وهذا كله ينطوي على شيء اسمه التحكّم. سيكرر سامي ذلك المشهد، ليصبح حيناً "الله" وأحياناً مخلوقاته، كما كان يقول تروفو في وصفه مهنة المخرج. انها تلك اللحظة التأسيسية التي مدّت الفتى بالرغبة في صناعة مثيل لها والدخول في عملية اقتراح الزيف بوصفه حقيقة مطلقة. وهي أيضاً، بلا أدنى شك، وسيلة لمواجهة عقده ومخاوفه وشياطينه. 


سيرة جزئية
الفيلم سيرة ذاتية بشكل جزئي لا بالكامل. التجربة الشخصية الواقعية جعلها المخرج تتقاطع مع تجارب الشخصيات التي تناسلت من خياله وخيال شريكه في الكتابة توني كوشنر. بهذا، تفادى الاصطدام بمطبّات كثيرة. تناول الذات وهو يقف على مسافة منها، ومنع نفسه من الحديث عن الماضي من كرسي الحاضر المريح. كلّ ما يفعله سبيلبرغ هنا هو نقيض ما كان ليفعله آخر. من خلال سامي، يحاول نكء بعض الجراح التي لم تندمل. في تلك الجراح، ينبش الحكاية التي لم تُروَ بعد، ولم يكن قد حان وقتها الا عندما حلّت الجائحة وتوقّف الزمن، فظهرت الأسئلة النائمة والمسائل المؤجلة. في وجدان سبيلبرغ، بعض الشؤون التي لم يصفِّ حسابه معها، لكثرة انشغاله بقصص الآخرين، ماضياً حاضراً ومستقبلاً. هناك صراعات مع الذات تطفو على السطح فجأةً، وهو على عتبة الثمانين. كنّا على علم ببعضها وسنتعرف إلى بعضها الآخر. لم يخفِ سبيلبرغ يوماً انه كان مضطهداً في المدرسة لا لشيء سوى لأنه يهوديّ الديانة. كنّا نعلم كذلك ان طلاق والديه ترك فيه آثاراً نفسية بالغة. أمّا الصراع بين العلم والفنّ الذي عاشه وكان عليه التعامل معهما كنقيضين، فهذا أيضاً من الأشياء التي يضعها في قلب الفيلم وفي متن الأحداث. ولأن الحديث عن الماضي والوقوف في وجهه أحد شروط الشفاء منه والمصالحة مع تداعياته، يضعنا سبيلبرغ في قلب جلسة رقيقة يتسنّى لنا خلالها ان نمسح دمعة عالقة. 


تجربة متّصلة بحياة المخرج
الطفولة المختلفة والأبوة والتضحية والعلاقات المعقّدة، في الاطار الأسري المحض، هذا كله لطالما شكّل عند سبيلبرغ مادة حيوية. الآن هذا كله يتفجّر بشكل مختلف، ليغدو فرصة رد اعتبار إلى أهله وفي المقدّمة أمّه التي تشارك معها ميوله الفنية، خلافاً لوالده صاحب العقل العلمي الذي يضع الأشياء في ميزان المنطق. سندرك تباعاً المصادر التي ارتوت منها سينما سبيلبرغ والتي لا تزال تلهمه. هذا التخبّط الناتج من فقدان التماسك العائلي كان حاضراً في عدد من أفلامه، من "إي تي" إلى "لقاءات قريبة للجنس الثالث"، عبوراً بـ"امسكني اذا تمكنت". هناك طفل دائم يرقد داخل أفلام سبيلبرغ والأمر ليس مختلفاً هنا، لكن لم يسبق لهذا الموضوع ان أخذ هذا الحجم وهذا الشكل المتصل بتجربة المخرج. ثم ان الطفل هذه المرة يملك متنفساً للتعبير وملاذاً للاختباء وصراعات مفتوحة داخل البيت وخارجه، وهو فوق ذلك كله محمّل طموحاً يتوق إلى صناعة الأفلام، كما انه مسنود بتجربة حياة مليئة بعلاقات مكلومة واضطهاد وعدم توافر فرص. هذا الطفل سيتعلّم ان يعض على الجرح، فالألم المحسوس بصمت سيزجّ به في الخلق، والخلق سيرفع من شأنه إنساناً وفنّاناً.
 
العائلة بكامل أفرادها.

“أيتها العائلات، أحييكِ!”
لكن، في المقابل، سبيلبرغ ليس أوروبياً. لم يكن يوماً ناقماً أو حاقداً أو سينيكياً في تعاطيه مع معضلة العائلة، التي هي، رغم كلّ شيء، مصدر سلام واطمئنان لا خلاص من دونها. انه ابن ثقافته الأميركية التي تقدّس الأسرة وتضعها فوق كلّ اعتبار؛ ثقافة تقف في المعسكر النقيض لتقاليد أدبية ارتكزت على نشر الغسيل الوسخ، وهي تقاليد ورثها السينمائيون الأوروبيون من الأدب. فالعائلة عندهم أصل الشرور. من بروست إلى هوغو، فكك الكتّاب الفرنسيون تأثير العائلة السلبي في الفرد. "أيتها العائلات أكرهكِ! بيوت مغلقة، أبواب موصدة، تملّك، احتكار للسعادة". هذا ما كتبه أندره جيد في قصيدة. أمّا سبيلبرغ، فهو لا يصطدم سوى ليعود ويتصالح، لا بل يصطدم "لـ"يتصالح، موفّراً على الدوام رصيداً من الإيجابيات التي تبقى في مكان ما من دون ان يستخدمها بالضرورة، لكن هو ونحن نعلم انها موجودة. الا ان اللاوعي يخونه أحياناً: فكلما ابتعد سامي من العائلة، تحرر من التزاماته تجاهها، فحلّق فنّياً ونال استقلاليته وبنى مشروعه. 


من طفل سينمائي إلى سينمائي طفل
الطفل الذي كان يحلم ان يكون سينمائياً، أصبح الآن يتمنى ان يكون طفلاً، ان يعود إلى سنواته الأولى، ليرى الأشياء من الموقع ذلك، وبعين بريئة غير ملوثة. النظرة الصافية للأشياء، التي يخسرها الفنّان عملاً بعد عمل، لا تُعوَّض. وما إن وُضِع القطار على السكّة حتى أصبحت العودة إلى نقطة الانطلاق مستحيلة. لا عودة! لكن الفنّ يتيح ما لا تسمح به الحياة. يسمح بولادة جديدة. هذه الفكرة وحدها هي مركز قوة الفيلم الذي يحمل طعم البراءة، سواء في تفاصيل الصورة التي شكّلها يانوش كامينسكي بألوانها المريحة والفرحة، أو في كلّ ما يظهر على وجوه الممثّلين الذين لن تبارح الثقة عيونهم حتى وهم تحت أشد الضغوط النفسية. ينتهز سبيلبرغ هذه العودة إلى الطفولة ليسأل نفسه أين يختبئ فيها سبيلرغ الحالي، وهل يستطيع رد الاعتبار اليه، وإلى أي حد ما نراه يعمل على غبش الحدود بين المعيش والمتخيل. واذا كان لدى المُشاهد بعض الشكوك في صوابية هذا الكلام، سيأتي المشهد الذي يدخل فيه سامي ورفاقه إلى الصالة لمشاهدة "الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس" ليطمئننا. فمعروف عن فيلم جون فورد أنه يعرض بطلاً تعزّى بأسطورة، وهي مجرد فكرة انتشرت وتأسست عليها ميثولوجيا الغرب الأميركي. من خلال هذه الفكرة، يهدي سبيلبرغ إلى نفسه ولادة جديدة معيداً ترتيب الماضي في ظل الحاضر وفي ضوء اسمه الذي ارتبط بصوغ مخيلة المشاهد. 
 

سلطة الصورة
الفيلم الجميل الذي نتسلّمه من سبيلبرغ، موحٍ وحامل دلالات ومشبع باللقاءات بين الأضداد، كذلك اللقاء الذي سيجمع سامي بفتاة مسيحية، هي رفيقته في المدرسة، تقنعه بالمسيح، ممّا ينتج بعض المواقف الطريفة كفيلة بأن تضع الفيلم في اطار الكوميديا. لكن "آل فايبلمان" هو قبل هذا كله، فيلم عن فعل المشاهدة، عن ذلك الطقس الذي لا يزال يبهر سبيلبرغ وهو في خريف عمره وعلى ما يبدو يعي أهميته ولا يفهم لغزه. هناك أفلام ليست سوى محاولات للفهم، تقع في الخط الفاصل بين الوضوح والغموض، و"آل فايبلمان" من هذه الأعمال. يكفي مشهد تصوير سامي لتفاصيل عطلة صيفية على الشاطئ ثم عرضها على التلامذة، دليلاً على سلطة الصورة وما تستطيع ان تحدثه، انتقاماً منها للواقع. هذه هي الفكرة الأسمى التي يحملها الفيلم لعلّها ستبقى وصية سبيليرغ، أحد أبرز صنّاع الأشكال البصرية خلال نصف القرن الأخير. الفكرة سليمة بصراحتها مهما أضيفت عليها أفلام لاحقة: لا مواجهة مع المجتمع أشد من تلك التي تجعلك تضعه أمام صورته. 


(*) شاهدناه في مهرجان لوميير (15-23 تشرين الأول) قبل ان يعرضه مهرجان تسالونيك (3-13 الجاري) افتتاحاً، وصولاً إلى مهرجان القاهرة (13-22 الجاري) الذي اختاره بدوره فيلماً يفتتح به دورته الـ44 هذا المساء.
 
سبيلبرغ ولابلّ في موقع تصوير الفيلم.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم