الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"الفأر الأسود": عن طبقيّة وموت معرض طرابلس الدوليّ

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
لقطة من الفيلم.
لقطة من الفيلم.
A+ A-

لا يمكن لمشاهِد "الفأر الأسود" (كتابة وإخراج أحمد النابلسي) أن يلجم تفكيره بشرارات الأسئلة الّتي تتوالد من نواة جدليّة وغير مطروقة: أي وظيفة يشغل اليوم معرض طرابلس الدّوليّ؟

كباش الفأر والفيل

الفأر حيوان الخفّة والمكر. يستحكم به الشرّ الطبقي فيحتمي منه محتجباً بالسواد. تحت الجلد هامش حرية لا يفيض عن ضآلة جسمه. شخصيّة متخيّلة على النقيض من "الفيل الأبيض" الجامد والضّخم، الّذي شاخ بدون عناية فترهّل، ويمثّله المعرض بنمطه المعماري. يجسّد الفأرَ شاب درّاج على "البيسكلات"، يسري في شوارع طرابلس ليصل إلى المعرض، وحين يطلب الدّخول، يمنعه الحاجب، فيشتمه الفأر ويمضي في سبيله. على طول الفيلم (21 دقيقة)، تتداعى آراء ومرويّات من مهنيين وخبراء في العمارة والفنون والسياحة وجيران للمعرض... يتحدّثون عن علاقتهم بالمكان، فنسمع صوتهم فيما تتواصل لقطة جسرية من زاوية "Bird eye view"، مقترحة للمشاهد رؤية مختلفة لشوارع التي تبدو متاهات ضيقة ارتفعت على أطرافها سطوح لا تعرف التخطيط والتأهيل العمراني.  

من يتابع أخبار طرابس يعلم أنّ طروحات عديدة تحاول تنشيط معرض أوسكار نيماير (تصميم 1962)، ولكن جميعها تستهدف الاقتصاد: معرض تجاريّ دائم، منطقة اقتصاديّة حرّة، مساحة لتوليد الطاقة الشمسية... يغرد الفيلم خارج السرب. ينتقد تسييج المعرض، ومصادرة هذه المشاعات الشاسعة. فبسببها أخلي هذا المجال العمرانيّ من الناس والصوت والوظيفة. وفي الوقت نفسه، يطفح مفهوم المعرض بالتناقضات... فهو من جهة متأثر بالنمط الوحشي الذي يترجم رؤية اشتراكية للعمران، ومن جهة أخرى بذلت في سبيله المليارات. وحين ولد "الفيل الأبيض" وحتى في سنوات موته السريري، تواصل تزاحم العشوائيات في طرابلس، مثلما تتزاحم بجوار فيلة بيضاء مماثلة في الهند وبوخارست وكندا والصين.
 

 

هجاء إجتماعي

اللافت أنّ لفظة "رشيد كرامي" غابت بالكامل، كأنّ الكاتب يمسك عن تلميح أو توثيق أي تفصيل من الممكن أن يعطي رصيداً للسياسة. لم يعبّر الفيلم عنوة عن خصومة مع السياسيين، لكنه يدين الفساد الإداريّ والقيميّ الّذي لا شكّ أنّ للسياسية الضلوع الأهم به. تعمّد النابلسي تحريك الفيلم في دائرة أوسكار نيماير. دارت الإشكاليّة إذن في مقاربة عمران تتفرع منه الجزئيات الاجتماعية والثقافية والتاريخية، فهناك صوت يعتبر أنّ المعرض يثير انبهاراً وليد الأفكار المسبقة لدى سياح لا يصدّقون أنّ طرابلس مدينة العشوائيات تحتضن هذا البناء، وشاهد عيان على سرقة أبواب وقطع من المعرض أيام الحرب، وهناك من يعرف كيف استفادت البنايات الفاخرة المجاورة للمعرض من تشييده مرتين، فقطعت أشجار الليمون وباعتها وبنت شققاً أكسبتها ملايين الدولارات، وأحدهم يسأل لماذا لا يسمح للمواطنين بالتنزه في المعرض وسماع الموسيقى، ثم نسمع صوتاً يتهكّم شاكياً: "إن كنت من سكان المنطقة، سيسمح لك بدخول المعرض لتنزّه كلبك. لكن إن كنت ابن طرابلس، وتريد أن تقيم مشروعاً اجتماعياً في المعرض، ستُمنع الدخول!".

 

جوهر هذه الصرخات يتبلور في انتقاد لاذع للطبقيّة. تدعّم الفرضيّة التي تظهر في أول الفيلم كالآتي: "هناك حالة تُسمى "الفيل الأبيض" مشاريع مكلفة وفارغة تماماً من الذاكرة، أما الآن فهي منسية ومتروكة". حجم الممنوع هنا يفوق حجم المسموح بأشواط. وبمرور عقود على هذه الحال، يظهر الموت هنا بوجهين: موت المعرض نفسه، وموت العلاقة بين المعرض والناس، حيث لا يجدون في هذه المساحة إلهاماً ولا انتماء!

الإبداع في الرموز والتصور

لا بدّ من الإشادة بالابتكار الّذي يعزّز القيمة الأبرز لهذا الفيلم. فالحوار الذي تناول المعرض حتى اللحظة يتخذ بعداً براغماتيّاً. لم تتشكّل في طرابلس ورشة عمل مفتوحة تغوص في وظائفه الحاضرة والمفترضة من منطلق اجتماعيّ وثقافيّ. استحضر الكاتب هذه الأبعاد بأصوات متعددة. وبرزت بأسلوب خفيف لأنها تعيش يوميات المدينة، وعميق لأنها متخصصة وملمّة بثقافة أو معلومات نادرة. تُعطى هذه الأصوات اهتمامك الكامل بدون مجهود ولا ضجر، فهي حادت عن الثرثرات و"النّق".

علاوة على الموضوع، تتفرّد القصة لكونها متخيّلة. الفيلم غير وثائقيّ لكنّه حقيقيّ. هذا الخط الرفيع رسمه النابلسي في تظهيره غير الكلاسيكي لمداخلات الاخصائيين، فجعلنا نسمع أصواتهم فقط، أضف إليها الحوار الصحفي المتخيّل مع أوسكار نيامير على قطار "أورينت اكسبرس".

ينضح الإخراج بإشارات بصريّة. تستوقفنا في اللقطة الأولى لعبة الظل والنور بداخل إحدى منشآت المعرض، فأنتجت صورة متعددة لزنزانة، أو شريط فيلم. وتبدو رشيقة حركات الدرّاج "ساستك" على قبّة المعرض، من زاوية معاكسة للنور، فجسّد حرفيّاً الفأر الأسود. وفي الخاتمة تتباطأ الصورة تدريجياً، وتظهر مساحة تتخلّلها قضبان اسمنتية شبيهة بسكك الحديد، موحية بانتهاء المقابلة مع نيماير وتوقف القطار- المحطّة الزمنيّة.

يكفل "الفأر الأسود" بنقل نقمة اجتماعيّة تكتوي سكان طرابلس تحت رماد الكتلة الرمادية الباردة. الرسالة وصلت وحفرت حسرة. ليس مجداً عظيماً أن يُدرج المعرض على لائحة التراث العالمي للأونيسكو (2018)، إن بقي بحضوره لا يخاطب السكان المحليين. "الفيل الأبيض" تجسيد للرأسماليّة وشخصيّاتها البكماء التي أتت على مقدرات طرابلس، فاستنزفتها وأمعنت في توسيع الشروخ الطبقية. نضوج مبشّر في تجربة أحمد النابلسي، ولا مجازفة في أن نتوقّع لها أصداء دوليّة.

*عُرض "الفأر الأسود" في Metropolis Cinema، و Beirut Art Center، وHammana Artist House، وسيعرض في "مقهى التل العليا" بطرابلس مساء 26 نيسان.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم