الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"بِرل" لتاي وست: السينما تنظر إلى نفسها

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
ميا غوث في "بِرل".
ميا غوث في "بِرل".
A+ A-
"بِرل" للأميركي تاي وست، المعروض في مهرجان البندقية الأخير، لم يكن على جدول مشاهداتي الا بعدما نبّهني إليه أحدهم، وهذا الـ"أحدهم" كان قرأ مقالاً نقدياً يشيد بالفيلم في جريدة "غارديان" البريطانية. أروي هذه المعلومة للقول ان الأفلام التي لا تُعرَض في متن المهرجان، أي المسابقة الرسمية وتوابعها من أقسام قريبة لها كـ"أوريزوتي"، لا تحظى بالاهتمام الا بعد توصية من هذا أو ذاك، وبعدما يكون لفت الانتباه على نحو ما. في أي حال، صعب عليّ إيجاد كرسي شاغر في الصالة التي عرضت هذا الفيلم الـ"سلاشر" (نوع سينمائي) لصاحبه المتخصص في الرعب. فالكلام الإيجابي الذي انتشر في حقّه ساهم في ان يزحف المشاهدون إلى الصالة. أما ما قاله مارتن سكورسيزي عنه لاحقاً من ثناء، فسيكون بطاقة عبور لأعداد اضافية من الجمهور.
 
سينما تستوحي من السينما.
 
يموضع "بِرل" نفسه خارج الزمان والمكان. لا علاقة له بأي شأن حالي أو بماضٍ. يستمد قوته من ان مرجعه الأساسي والوحيد هو السينما نفسها، فنّ الشاشة الذي يستعير منه كلّ شيء بلا أي احساس بالدونية. هناك نوعان من السينمائيين: مَن يستلهم السينما ومَن يستلهم الحياة. تاي وست من النوع الأول وبشراسة، على طريقة تارانتينو. الأحداث تدور في الريف البعيد، خلال الحرب العالمية الأولى حيث شابة اسمها بِرل (ميا غوث) تعيش مع والديها وتحلم بالشهرة والرقص في الأفلام الميوزيكالية التي كانت ستسود في هوليوود خلال العقود اللاحقة. زوجها في الجبهة وهي لا يشغلها سوى المشاركة في مباراة غناء، علّها تكون بداية دخولها دائرة الشهرة التي ستنتشلها من حياتها المملّة والرتيبة. حياة زوجها العسكرية التي لا نراها بل نسمع عنها، تقابلها تخيلات بِرل في جنّتها الريفية ذات الألوان الفاقعة والقوية. لكن هذا الصفاء سرعان ما ستعكّره علاقة بِرل المضطربة بأمها المستبدة، ليجد الفيلم نفسه وقد بدأ يترنّح بين "كاري" لبراين دبالما نظراً لمَا يحمله من علاقات عائلية سقيمة وبين تارانتينو الذي لطالما صنع من العنف دعابة. ربما سيعتقد القارئ بأننا نتكلّم عن كوميديا رومنطيقية أو قصّة نجاح كما عوّدتنا الأفلام الهوليوودية، لكن ما سيحدث في النصف الثاني من الفيلم هو عكس كلّ ما نتصوّره. فالغرائز التي لطالما كانت مكبوتة عند بِرل ستجد الفرصة السانحة لتتفجّر فتطال شظاياها المُشاهد.
 
لو فيكتور فليمينغ عاد لينجز "ساحر أوز" من جديد.
 
ان الفيلم مزعج ودموي ومقزز ويعطي الانطباع بأنه يخرج من مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، كما انه يثير بعض الاضطراب خصوصاً ان مصدر الشرور هنا هو الرغبة في الشهرة والفنّ، لكنه لا يبحث عن صدمة أو استفزاز. فهو واضح في هدفه، ويبقى في اطار الباروديا دون رغبة في تخطيه. هذا فيلم يحاكي السينما، يسخر منها، يلقي تحية عليها، يستنسخ من لحظاتها، يلعب بتوقّعاتنا، يضع الجميل في مقابل القبيح، ويقدّم جردة حساب طويلة بأشياء صنعت السينما. لذا، حتى مَشاهد تقطيع الأوصال أو جزّ الرؤوس يستقبلها المُشاهد كشيء أقرب إلى الاحتفالية ولا يمكن النظر اليها إلا من هذه الزاوية.
 
هذا لا يعني ان الفيلم يحصر نفسه في اطار التمرين الاسلوبي والتحيات والباروديا. بل هو من سلالة أفلام غرائبية تدّعي علاج العنف بالعنف، والدم بالدم، والقتل بالقتل. لا يختلف "بِرل" عن الكثير من أعمال "السينما باء"، بشخصياتها المبتورة التي تعاني الرفض والاقصاء وحبكتها الهشّة واللجوء الدائم إلى التصفية الجسدية بعد تجربة مريرة. وكان من الممكن ان يسقط في قعر هذا الصنف الهامشي، الا ان ذكاء المخرج وقدرته على مدّه برونق خاص بإمكانات انتاجية لا بأس بها، وبخيارات إخراجية تنتمي إلى المدرسة القديمة، وبصورة تكنيكولور تصنع كونتراستاً مع سقم الموضوع (ديدان وجثث متحللة)… هذا كله جعله يربط سينماه بتاريخها في عقل المتفرج. وذلك من خلال صناعة تناقض بين الشكل والمضمون، وبين الألوان التي تليق للميلودراما والحكاية التي غالباً ما تحتاج إلى الظلمة لتنمو وتتطور.
 
عنف - دعابة لا يمكن حمله على محمل الجد.
هذا كله ما كان ليصل إلى مثل هذه النتيجة لولا الممثّلة ميا غوث التي شخّصت بِرل بكلّ التباسها. حيناً تكون فتاة رقيقة وحيناً نسخة أخرى منها على نقيضها تماماً، وأيضاً بكلّ الحيرة التي تظل ماثلة فينا تجاهها. "بِرل" هو ساحر أوز الألفية الثالثة، الفيلم الذي كان أنجزه ربما فيكتور فليمينغ لو ولد في زمن تارانتينو وعاش وعمل على مشارف حرب عالمية ثالثة. 
 
أحد لقاءات بِرل القليلة في الفيلم.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم