الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

البندقية 79 – "حديد نحاس بطاريات": إليكم لبنان وسام شرف!

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
غرام سوري / أثيوبي في بيروت.
غرام سوري / أثيوبي في بيروت.
A+ A-
البندقية - هوفيك حبشيان
 
في ثاني أفلامه الروائية الطويلة بعد "من السماء"، يناقش المخرج اللبناني وسام شرف مسائل مهمة بلغة سينمائية تتراوح بين الحزن والخفّة، تكريساً لنمط كان باشره مع عمله السابق. في حين انكبّ كثر من السينمائيين على مصير ناسهم ومَن يشعرون بالإنتماء اليهم همّاً ومصيراً في بلاد المهجر والاغتراب (لا كما يسمّيها أحد رجال السياسة في لبنان بـ"الانتشار" كذباً وتضليلاً)، حاول هذا المخرج أن يذهب في الاتجاه المعاكس، فتناول هؤلاء الغرباء الذين يعيشون بيننا، في العالم العربي، وتحديداً في لبنان.

الحكاية هي في الأساس عن علاقة غرامية، لكن الفيلم يتحمّل أكثر من هذا ويذهب إلى أبعد من مجرد ما هو مرسوم على الشاشة. العلاقة هي بين أحمد (زياد جلاّد)، نازح سوري يبيع "حديد نحاس بطاريات" (عنوان الفيلم)، وفتاة أثيوبية (كلارا كوتوريه) تعمل خادمة عند عائلة متوسطة الحال تحتاج إلى مَن يهتم بشؤون البيت، خصوصاً ان الزوج يعاني من حالة مرضية معينة تجعله يتقمّص دور مصّاص دماء في أنصاف الليالي. فهو كولونيل متقاعد، وقد اختار المخرج لهذا الدور الممثّل رفعت طربيه ذا الأفكار اليمينية المحافظة، والدور يلبسه كقفازات على مقاس يديه تماماً.

 
(غريبان عالقان في لبنان!).
 
لا شيء يصوّره شرف بحوارات تقليدية متكررة لاكتها الألسنة إلى درجة صارت وجوهاً مختلفة لشخص واحد. فهو أصر ان ينظر إلى الموضوع من زاوية جديدة، مختلفة تماماً. مَن شاهد فيلمه السابق الذي مر في أحد أقسام كانّ الموازية ("أسيد")، ما كان يتوقّع منه أقل من هذا النوع من المعالجة الخفيفة لموضوع كان تحوّل أمام كاميرا مخرج آخر إلى بكائيات مرهقة واستغلال، ربما غير مقصود ولكن مزعج… وما أكثر هذه الأفلام! يبقى شرف هنا في اطار السينما المحض. على كلّ شيء في الفيلم ان يخدم السينما عنده. المقصود انه لا يهمل الفنّ في سبيل قضية مهما تكن مهمة. الضوء الذي يتسلل بين أغصان الشجر في الغابة هو بأهمية المأساة التي يعيشها المهمشون في الفيلم، أكانوا غرباء أم من أبناء البلد نفسه. في أي حال، احدى المرجعيات الكبرى التي يستند الفيلم اليها واضحة لا تحمل لبساً: انها سينما الفنلندي آكي كوريسماكي الذي يضع السينما عنده فوق كلّ اعتبار، مهما يكن الموضوع الذي يتحدّث عنه. حتى عندما صوّر لاجئاً سورياً يحاول بناء حياته في فنلندا، فعل ذلك عبر استدراج الأخير إلى عالمه وألوانه وأجوائه كلها.

(فيلم عن المهمشين).

افتتح "حديد نحاس بطاريات" قسم "أيام السينمائيين" وهو أحد الأقسام التنافسية الموازية داخل مهرجان البندقية (31 آب - 10 أيلول)، ولاقى استحساناً من الذين شاهدوه. يقول شرف ان هذا الفيلم خطر في باله حينما كان في البندقية قبل عشر سنين، وقد صوّره في فترة انتشار الوباء بين لبنان وجزيرة كورسيكا، واستعان بالممثّلين الرئيسيين بعدما أمضى وقتاً طويلاً وهو يبحث عنهما ضمن اختبارات كاستينغ. عمل شرف مراسلاً وصحافياً لمحطة "آرتي" الفرنسية الألمانية، وغطى شؤوناً سياسية كثيرة، ما جعله ملمّاً بقضية اللاجئين، حد انه عندما انكب على كتابة السيناريو مع شريكتيه في الكتابة، لم يكن ورقة بيضاء، بل صفحة مشبعة بتجربة طويلة تُرجمت على الشاشة بشكل واضح.



تجري أحداث الفيلم في سجن كبير يُدعى لبنان، حيث الكلّ سجين شيءٍ ما. المرض، الماضي، الخوف من الآخر، الخ. والتهميش يطال اللبنانيين مثلما يطال الغرباء المغشوشين، نزلاء هذه الجنّة الزائفة. صحيح أن الفيلم يكشف جانباً غير ايجابي من البلد الصغير المحتل، لكنه يفعل ذلك بسخريةٍ متلفعةٍ بحنان ودفء، وعلى نحو يرتقي به الفنّ اللبناني. ذمُّ البعض أكثر نبلاً من المديح. فلدى الكثير من الأعمال الدعائية للوطن، القدرة على تمريغنا في الوحل أكثر من نصوص نقدية. والشخصية الفنية التي استطاع الفيلم ابتكارها، هي رصيده وأهمّ ما فيه، وهي التي منعته من ان يكون فيلماً أشبه ببيانات الجمعيات غير الحكومية التي تحوّل القضايا إلى متاجرة. ألقى شرف نظرة مختلفة على الواقع اللبناني وبحسب تقييمه له؛ نظرة لم يسبق ان حضرت بهذا الشكل في السينما اللبنانية. حرص على وضع الإنسان ومشاعره فوق كلّ الاعتبارات السياسية والأخلاقية، وذلك بعيداً من النمطية، ومن خلال معاملة أحمد ومهدية كسائر البشر، بما لديهما من رغبات وأحلام وطموحات، وأيضاً حين يقعان في الحبّ كغيرهما من الناس، وهذا ما ليس عند بعض اللبنانيين القدرة على تقبّله. "لم أرد فيلماً اجتماعياً عن عذابات الناس"، قال شريف في مقابلة صحافية، وهو يعي ان الصيغة التي لجأ اليها، حيث القليل من العبثية والخفّة والهجرة إلى عناصر الجانر السينمائي، لها الكلمة الفصل في أفلام مماثلة.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم