الأربعاء - 08 أيار 2024

إعلان

مجد الشّهادة في قصّة "ابن الصبحا" لجميل الدويهي

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
قد يتصوّر قارئ التوضيح في عتبة قصّة "ابن الصبحا" لجميل الدويهي، أنّ التاريخ وقف في منتصف التحوّلات الكبرى عند تغيير الأمبراطوريّات، يعزف على قيثارة الأحزان في جلجلة انهزامات، بعد أنواء عواصف هوجاء، ضربت بعنف مجنون جبالاً عاصية في لبنان.
 
وإنْ طرق التاريخ أبواب الأكواخ في تلك الجبال مهابةً، فجميل الدويهي قد غسل تخومها بذهب الزمان؛ وصوت البطريرك دانيال الحدشيتي يشقّ عباب المقاومة إلى أسطورة المجد قبل وبعد الشّهادة. وفي الوديان السّحيقة بين الجبال أحجار تآكلت من مرور الفلّاحين المقاومين فوقها، وصقلتها الأنهر، وعلى أبواب الكهوف السرّيّة أزهار حزينة روتها دماء الشّهداء.
 
باح الدويهي بحلم حبٍّ، منسوج من حِداء الأمّهات وصهيل خيل تحمل على صهواتها الويل. حلم يسبح بدم كلّ قارئ أنشودة أزليّة: "-كم أحبّك، يا امرأة من عطر وصنوبر!/ -كم أحبّك يا رجل من صخر وعبادة" (صفحة 23). فمن أسكن تلك الجبال الشمّاء لعنة الحبّ الدامي؟ وقد جال في خواطرنا حبر الكاتب دماً ودفعاً وطنيّاً أينما اتّجهنا... "حبلت حرّيّة سفاحاً، من رجل لا تعرفه. فارس له عين واحدة، افترسها بينما كانت أبالسة الشرّ تدوس بأقدامها على الجماجم فتحطّمها." (صفحة 65).
 
قرأ جميل الدويهي الناس، لأنّهم أهم من الكتب بعفويتهم الاستثنائيّة، وخاصة أهل الجبال. وصبا إلى وطنه حنيناً وهو في دنيا الاغتراب، وعشقه عشقاً على قياس أحلام الفلّاحين المقاومين الذين غرّر بهم "ابن الصبحا"، وأسلمهم للمماليك وللسيل الجارف: "ومن الصعب أن يستطيع إنسان غريب أن يحوز على رضى الأهالي في بقعة جغرافيّة معقّدة، مرسومة بحبر الشهادة." (صفحة 14).
 
فلّاحون ثقافتهم الفرح الصباحي المبكر، لا يهادنون سوى الحفافي التي تخصّر انحدار الجبال الشاهقة. فقد اختاروا المقاومة، وأصبحوا رموز أسطورة متمادية إلى الأزل عبر الحاضر: "رجال ونساء يقرؤون حروف الهجاء في الأثلام العريضة." (صفحة 15).
 
إنّ كتابة التاريخ أسلوبٌ متعمدٌ لدى الكاتب، فقد أرخ ما أوقع في النفوس وأنفذ إلى القلوب. أجل أراد أن يقول من خلال قصّته كلاماً معيّناً، كأن ينقل إلى الآخرين رسالة يشجب فيها كلّ تعاسات وانكسارات الوطن، ولكنّها لم تكن رسالة ينظّمها المنطق ويضبط حدودها، بقدر ما هي دفقات من الصراخ هي أشبه بنذر الخطر. فالمماليك لم يرحلوا، وإن رحلوا بقي طيفهم في كلّ جيش دخل لبنان عنوة أو حيلة. وتناسلت ذريّة "ابن الصبحا" على قدر حاجة النفوس الضعيفة إلى المال والمناصب.
 
ولعل معجزة هذا الوطن الجميل في صورة جمعت كلّ أطيافه، ولعل هذه القصّة تبيّن لنا كيف تتّجه الطائفة المارونيّة إلى لبننة الإيمان -إذا صحّ التعبير- والاهتمام بالحاجة إلى الحرّيّة، في كلّ مرّة يتّحد فيها مقدَّموها كما في آخر القصّة. والتاريخ يؤكّد أنّ مسألة الموارنة مسألة استقلال وليست مسألة حكّام أو نظام.
قال لنا جميل الدويهي في نهاية قصّته، إن المقاوم الذّي يندمج مع جهاده من أجل وطنه، جهاد من أجل الحريّة والحبّ والحياة، سيؤمن بالإنسان عندما يتحوّل الإنسان إلى فكرة تلد الحبّ والفرح، وتزهو مع التضحية.
وتدوم هذه الفكرة وتتجسد واقعاً، لأنّ دورها على مسرح الوطن لا ينتهي، وأنّ واجبها الاستمرار، لكي يحيا بها الآخرون الذّين ناضلوا من أجل البقاء واستمرار الحريّة. فمجد شهادتهم يبذر الحبّ، ويهطل المطر وتزهر السنابل. وهكذا يحلّ الرجاء محل القنوط والخوف. وتنطفئ عيون أبناء "الصبحة"، وعلى جدار الزمن يشرق نجم يسامر شجر الأرز في ليالي الصيف.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم