الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

لوحة مكة المكرمة لشوقي دلال: "باب السّماء" يتوشى بالفيض والوحي

اللوحة.
اللوحة.
A+ A-

الدكتور رفيق أبو غوش

ما علاقة الفنّ بالدّين وبالأماكن الدينيّة؟ والذي يرسم الجّمال ويتماهى مع الخلق والتّجسيد ماذا يروم من مَعلَمٍ ديني؟ ألِأن الإنسان مؤمنٌ بالفطرة، ويخاف من المجهول والمغلق، فيفتح مخبّآته بالرّيشة؟ وماذا يريد الفنّان شوقي دلال من رسم باب السّماء؟ هل لأن التّقرّب من الله مشاركة له في الصّنع؟ أم أن الفنّ والدّين يؤكّدان على المطلق فيكون عندها الخالق والمخلوق قد أتقنا الصّنع لأن الله يحبّ إذا عمل أحدٌ عملاً أن يتقنه؟

 ها هو الفنّان يبدع ويتقن رسمَ الباب الذي يحيلُ إلى أذهاننا رهبة المكان والانعكاسات الإيمانية، أي حقل الأشياء المنسّقة بداخلنا سابقًا في خطّ إيماني ما، وتداعيات موجودة في أذهاننا نقوم بترتيبها كي يتشكّل لدينا بنية مُدرًكة تجعلنا نحسّ بأن ما نراه هو سور الكعبة المشرّفة، والباب الذي يشكّل المدخل الواسع إلى رحاب التّوبة والإيمان والخلاص البشريّ. والفنّان بهذه الطّريقة يقومُ بعمليّة تسنينٍ وتنسيق العلامات والزّوايا والأسطح لتعطي الصّورة الكامنة في المخيّلة عن المكان المُراد رسمه.

من هذه الزّاوية يشكّل الفنّ حاجةً إنسانيّة روحيّة. كما أن الدّين حاجة روحيّة أيضًا. والدّين يجسّد الحقّ والجمال، والفنّ يبحثُ عنهما أيضًا، ويفتح المشهد على منابع الإبداع. وهنا يلتقيان. فالله هو الفنّان الأول. وقد أبدع الفنّانون في موضوعاتٍ دينيّة: فاسترافنسكي ألّفَ سمفونية المزامير والقدّاس. وشاغال رسم لوحاته الخمس عشرةفي موضوعات دينية. وفنَ الأيقونات ماثلٌ في الميثولوجيا المسيحيّة. فاللوحة إذًا هي نوعٌ من أنواع الشّعائر، كما أن السمفونيّة شعيرة لحنيّة. كذلك فن تجويد القرآن الكريم الذي يُعدّ نافذةً فنّيّة سمعيّة. كذكك زخرفة المساجد والقباب والنوافير والمآذن وما شابه.

فلماذا مكّة إذًا؟ لأنها باب الآخرة، وطريق الولوج إلى رحاب الرّحمن، ونقطة البيكار، ومركز الأرض اليابسة، وبابها باب التّطهر والخلاص من طينيّة العالم المتشيّئ. وهي أمّ القرى وأمّ الحواضر. وليس مصادفة أن تكتسب شرف نزول الرّسالة المحمّديّة، وتكتحل شعابها وسهولها برؤية رسول الحقّ، واحتضان رسالة الدّين في قلب الرّمال اللاهبة، في المملكة العربيّة السّعوديّة التي تُعدُّ حاضرة العالم الإسلامي المؤمن، وقاطرة النّجاة في حماية المكتسبات التي أودعها الرّسول حجارة الكعبة وأرضها.

سُمّيت مكّة بهذا الإسم لأنّها تمكُّ الذّنوب أي تُذهبها. تبعد عن جدّة سبعين كيلومترّا. ولها أسماء: البيت العتيق، الحاطمة، أم القرى، الحرم الأمين، العرش، الوادي المقدّس وغيرها. وتعلوها جبالٌ شامخة: جبل النّور، غار حراء، جبل الثّورة، أبي قيس، ومشعر منى. ولها ثلاثة مداخل: المعلاة والمسفلة والشبيكة.

بالعودة إلى الباب، فإن أول ما يميّزه هو ارتفاعه واتّساعه لتسهيل مرور المؤمنين، والولوج السّهل دونه. ويعود تاريخه إلى العام 1509 عندما قام المماليك ببناء سور جدّة بهدف حمايتها من الغارات الخارجيّة. وقد أُزيلَ جزءٌ منه جرّاء زحف العمران. أما لماذا جدّة تلك المدينة التي تغفو على شاطئ مائيّ، فلأنّ الأشياء والكائنات كلّها تعودُ إلى أصلٍ مائيّ. وأول ما جُبلَ من التّراب جُبلَ بالماء، ثمّ نُفخَ فيه فكانت الروح. والماء أصلُ الحياة. ألَمْ يجعل الله من الماء كلّ شيئ حي! والأرض. أليستْ ثلاثة أرباعها مشغولة بالماء؟ وعندما عُمّد الإله ألَم يُعمّد بالماء. والماء يُرطّب الجوارح، ويحيي اليباس، ويطفئ عطشَ المؤمنين في سعيهم إلى مكّة في لهيب الصّحراء وحرّها.

اللوحة مائيّة ترسم نفسها وتتوشّى بالفيض والوحي. لهذا تتواشج اللوحتان وتشكّلان معّا عناصر المعلم الدينيّ الأثري الذي ينتصبُ شاهدًا على إعادة الرّوح إلى العباءة المحمّديّة، وإنطاق المكان وبث الرّوح الإيمانية فيه. وقد تقصّد الفنّان إحياء هذا المكان بتجلّياته ورمزيّته المعروفة.

ويحيط بهذا الباب حديثّا مركزٌ للتسوق، وعددٌ من الأسواق الشّعبية التي تعكسُ روح العراقة والقدامة، وتشكّل رمزًا لمدينة جدّة في عراقتها وأصالتها. ولا تزال تلك المناطق تحتفظ بطابعها الشعبي الحجازيّ. ومن هذه الأسواق: سوق البدو، وسوق قابل وسوق النّدى وغيرها.

وما يميّز لوحات شوقي دلال هيمنة اللون الأصفر الذي يُعدّ لونّا أساسيًّا في أبجديّته. فاللون الأصفر لا يمكن أن نحصل عليه ولو كانت لدينا كل ألوان الدّنيا إذا لم يكن موجودًا بذاته. وهنا فرادة الأصفر في لوحات شوقي دلال. واللوحة هنا مقفلة لصعوبة الولوج من غير الأبواب الموصلة إلى الدّاخل، والذي يزدان بأشجار النّخيل الخضراء التي تطلّ برؤوسها ترغيبًا بالنّعيم وتقرّبًا من الله. أما الأزياء فتقليديّة تعود إلى العصر النبوي. وقد عكست عليها الشّمس ألوانها فبدت وكأنها تلبس ظلالها، وتمتزج مع الأرض الرّماديّة التي لكثرة العابرين تغيّر لونها.

الباب معبرٌ إلى فسحة إيمانية ما أحوجنا إلى توسيعها اليوم في عصر المادّيّة والاستلاب والآلة العمياء. وما أحوجنا إلى نشر معالم التّراث القديم، ومبادئ الدّين الحقّ بعد أن شوّههُ دعاة التّديّن، وأساؤوا إلى الحضارة وأعادوا الزّمن إلى الجاهلية الأولى. فعسى أن الفنّ أن يكون رافعة للتّقدّم واستعادة التّألّق.                                           
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم