الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

"عندك بحرية" ليست تلحين عبد الوهاب بل إيليّا بيضا

المصدر: "النهار"
إيليّا بيضا.
إيليّا بيضا.
A+ A-
هي مفاجأة ثقيلة بكل المقاييس الفنية والثقافية وحتى الشخصية. فأغنية الفنان وديع الصافي "عندك بحرية" التي قيل وتكرر القول عبر كل المنابر حتى دخل آذان الجمهور في كل مكان، إنها من تلحين الفنان محمد عبد الوهاب، هي من أغاني المغني في مطلع القرن العشرين إيليا بيضا .

ليس في الامر تشابه أسماء، ولا توارد أفكار، ولا استلهام ولا شيء من هذا القبيل، بل عن سابق تصور وتصميم قرّر عبد الوهاب "خطْفَها" واعتبار نفسه ملحنها في خطوة غريبة عنه هو، كموسيقار الشرق، وهذا أقل ألقابه!


إليكم القصة :
حضر عبد الوهاب إلى لبنان، كعادته قبل الحرب اللبنانية، ليمضي بعضاً من شهر أو شهرا، غالباً من أيام الصيف الحارة في القاهرة، بين الربوع اللبنانية، وكان فندق "شبرد" في بحمدون هو محط رحاله حيث يلتقي كبار أصدقائه الفنانين وأيضاً المغنين المعجبين وطالبي القرب الى ألحانه.

ذات سهرة لبنانية خاصة وعامرة بالوجوه الفنية والسياسية ورجال الأعمال التقى عبد الوهاب بصديقه وديع الصافي الذي كان نجم السهرة فتبادلا الكلام الودي كلما التقيا، وغنى وديع، ثم دندن عبد الوهاب بعض مقاطع أغانيه، وتقدّم أحد الساهرين الكبار ليسأل لِمَ لم يحصل بعد التعاون الضروري والمفيد، فأبدى كلٌّ منهما عواطفه ورأيه الفني المحترِم للآخر، لكن اعتبرا ان الظروف لم تسمح بعد. وتشجع أحد الكبار في السهرة ليقول إنه لن يرضى إلّا بأن يكون هناك لحن من عبد الوهاب للصافي، قبل عودته الى القاهرة، وحصل على وعد من الإثنين بالتجاوب. وتم الاتفاق المبدئي!

في اليوم التالي كان الشاعر ميشال طعمة، بناء على اتصال الصافي به، قد كتب أغنية "عندك بحرية" وزار مع الصافي، عبد الوهاب في فندقه وسلّماه الأغنية (كل هذا بحسب السردية المنتشرة).

راح يمرّ يوم وراء يوم وعبد الوهاب في بحمدون لا تتحرك قريحته حتى اعتقد الصافي أنه يضيع الوقت، وكاد ييأس، لولا أن اتصالاً من عبد الوهاب جاءه يقول إن الأغنية باتت جاهزة، وطلب الى الصافي أن يحضر ويتسلّمها ومعه الياس رحباني لأن عبد الوهاب يريد من الياس أن يوزع "عندك بحرية"، وترك عبد الوهاب الأغنية من دون مقدمة موسيقية متمنياً على الرحباني أن يضعها بنفسه. وفي حضور الرحباني والصافي عزف عبد الوهاب الأغنية وسجلها على كاسيت وسلّمهما إياها. وفي اليوم التالي سافر.

ذهب الياس بعد أيام الى الإستديو فرِحاً بأن عبد الوهاب اختاره شخصياً لتوزيع "عندك بحرية" وسجّل الموسيقى، ومنها المقدمة الموسيقية التي أبدعها الياس لها ليكون مَرْضِيّاً عند عبد الوهاب، ودخل الصافي الى الاستديو ووضع صوته، وبسرعة قياسية كانت الأغنية في الإذاعة اللبنانية، وأُذيعَت وسط شبْه احتفال، وكان الإعجاب بها استثنائياً من الجمهور الذي راح يرددها في كل مكان على أنها آخر إبداعات عبد الوهاب "اللبنانية".

غير أن موظفاً نبيهاً في الإذاعة اللبنانية أسرّ في أُذن وديع الصافي، بعد أسابيع قليلة، أن اللحن ليس لعبد الوهاب بل مأخوذ بالحرف والنوطة عن أغنية لإيليا بيضا الذي كان الصافي يعرفه معرفة عابرة، والأغنية مسجّلة في "إذاعة الشرق الأدنى" بالعنوان نفسه وبتحوير أو تغيير بعض الكلمات.

أُربِك الصافي، لا سيّما ان الأغنية انتشرت كالعاصفة، فأراد أن يتأكد من الخبر، فسأل وتقصّى وتأكد وتوصّل الى شريط تسجيل الأغنية القديمة بصوت بيضا، وفيها لازمة "عندك بحرية يا ريّس، بزنود قوية يا ريس، والبحر كويس يا ريّس"، أمّا إضافة "ودّينا بلدنا يا ريّس تا نشمّ ترابا يا ريّس" فلميشال طعمة. أغلب هذا الكلام واللحن كان أدّاه الفنان الشعبي عمر الزعني قبل عشرين عاماً من ذلك الوقت.

طَمَرَ وديع الصافي "الفضيحة الوهابية" التي كانت "سَتُطرْطِشُه" إذا أُعلِنَت وشاعت. ولا أحد يعلم كيف أن كل الصحافة كشفت أنّ أُصول الأغنية (وكانت جديدة العهد تقريباً) عند عمر الزعني، ولم يتنبّه أي ناقد أو فنان إلى مصدرها الأوّلي الذي هو إيليا بيضا. ويبدو أن الكل تعامل مع الموضوع من باب تقدير واحترام عبد الوهاب وأنه لا يجوز أن يتخيّب في الصحافة اللبنانية، والصمت "جائز" في هذه الحالة!

اليوم، لم يعد التحقق من القضية صعباً. إضغط على "غوغل" واكتب "عندك بحرية" إيليا بيضا، فستسمع لحن عبد الوهاب المنقول حرفياً من إيليا بيضا !

فمن أين جاء عبد الوهاب بالأغنية الاساسية لبيضا، من الإذاعة أم كان يحفظها غيباً مما يحفظ من القديم او المعاصر؟ وكيف تطابقت الكلمات لميشال طعمة مع اللحن الأساسي القديم، تقطيعاً وترديداً لِلَازمة "يا ريّس"؟ وهل "وضَعَ"، أي أخَذَ عبد الوهاب اللحن القديم وعزفه على عوده، ثم اتفق مع الشاعر ميشال طعمة كي يُركّب له الكلمات على اللحن، بعيداً من وديع الصافي الذي وجد كل شيء منتهياً بعد ذلك، فوضع الصافي الأمانة الوهابية مستعجلاً، بين يدي التوزيع لالياس رحباني حسب توجيه عبد الوهاب نفسه، وأنشدها بكل ذاك الألق؟

أسئلة كثيرة يمكن أن تذهب بنا أبعد. وكائناً ما كان الجواب، ليس من حقنا ان نعتمد "حادثة" استثنائية بمثابة قاعدة لفنان مثل محمد عبد الوهاب يقول عن نفسه "بيتهيّألي ما فيش عبد الوهاب واحد. بكل مرحلة كان في عبد الوهاب ما يعرفش عبد الوهاب اللي سبقه".


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم