في ذكرى غياب عاصي الرحباني: أي مقاربة لإرث "الأخوين"؟
25-06-2021 | 14:52
المصدر: "النهار"
في ذكرى وفاة عاصي الرحباني الخامسة والثلاثين، أيكفي إصدار طابع بريدي "للأخوين الرحباني" فيما ينهار لبنان القيم والحريات والثقافة والجمال الذي أودعه الأخوان في أغانيهما وأعمالهما المسرحية.
ماذا فعلنا لاستثمار إرث الأخوين في وضع الأغنية اللبنانية على الخريطة العربية والعالمية، بعدما ارتقوا بها لحناً وكلاماً وهذّبوها وصقلوها ونحتوها وحمّلوها الأصالة والحداثة، لا بل نفخوا فيها تعاويذ الجمال والمرتجى والمشتهى حتى بتنا نهرب من واقعنا ونلتحف أغنياتهم عساها يوماً ما تصيرُ حقيقة وواقعاً وحياة.
ماذا فعلنا، في ذكرى وفاة عاصي، غير الكلام المُنمّق والفولكلوريات والأدبيات لنفيَ هذا الرجل حقاً، ولو يسيراً، مما قدّمه وأعطاه وسعى إليه وبذله حتى الرمق الأخير، لا بل بلغ بنا الحال إلى لوم "الأخوين" على ما احتوته أغنياتهما من أوهام ومثاليات وطوباويات تناقض الواقع وتجافيه. وهنا، نسأل، هل الفنّ هو انعكاس للواقع فقط وتصوير له أم هو ما نصبو إليه ونحيا لأجله؟ أليس الأجدى بنا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، الكفّ عن التغني بالإرث الرحباني والشروع بدرسه منهجياً ووضعه على مشرحة النقد كعمل أدبي ذي أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية مع ما يحمله من إسقاطات على واقعنا اليوم. في هذه السطور القليلة سنضع رؤوس أقلام للأعمال الرحبانية كمشروع ثقافي اجتماعي تغييري.
نسجَ الرحابنة في أعمالهم وأغنياتهم صورة لبنان المأمول، وإن خالفتِ الواقع والموجود، ولكنّها توازياً كانت تؤسّسُ لعالمها وتُطلق خيوطها في اللاوعي وفي الوجدان اللبنانيين عسى في مرحلة ما تنبُت وتنمو وتتحوّلُ وعياً فردياً ومجتمعياً وإنسانياً.
شكّلت الكلمةُ في مشروع الرحابنة، إن جاز لنا تسميته بالمشروع، سواء أكانت من تأليفهم أو من كتابة شعراء وأدباء آخرين، نقطةَ الارتكاز والانطلاق، فسخّروا لها اللحن والمسرح والأشخاص وطوّعوهم كلّهم في خدمتها لتخرجَ في أبهى حلّة، راسمين المعالم لأغنية لبنانية هويتُها التفرّد وقوامُها التراث ونزوعها الجمال والحب والبساطة بعيداً من النخبوية والتعالي.
سعى الرحابنة في مشروعهم هذا إلى التغيير آخذين بعين الاعتبار الأهمية الاجتماعية للموسيقى والشعر كأداتين فاعلتين في الدفع نحو هذا التغيير، والذي لا بدّ أن تبدأ أولى بوادره بالانعكاس على المستوى السياسي وبالتفتّح في الوعي المجتمعي. حاول الرحابنة عدم الوقوع في براثن "اليوتوبيا" التي حاول كثرٌ في ما بعد إلصاقَها بأعمالهم، باستحضارِ أمثال وأحداث ومروّياتٍ من صلب الحياة اللبنانية مع تضمينها لما هو مرغوبٌ فيه واستشرافٌ للآتي.
هذا المشروع الرحباني، إذاً، ليس محض طوباوي وتجريدي بل كان مستقبلاً محتمَلاً بدّدته الحربُ الأهلية اللبنانية والحروب الأخرى على أرضه، (وهذا ربّما ما حدا بزياد الرحباني إلى الانشقاق عن مسرح "الأخوين الرحباني" بعدما وجدَ فيه اغتراباً عن الواقع اللبناني وتناقضاً خلّفا في نفسه نقمةً وسخطاً بعدما أحسَ بخديعة كبرى وانهيار مشروعين هما في الأصل واحد: المشروع الرحباني ومشروع لبنان - الوطن)، ليرتدّ عن الواقع وينكفئ ويغدو صورةً لمشتهى ومرجوّ.
لم تكن التربة اللبنانية مهيّأة بعد لتفتّح بذور مشروع كهذا في ظل نظام طائفي متفككٍ اجتماعياً منقسم على ذاته تحكمه العصبية وينخره الفساد وتسوده المحسوبيات وتغيب عنه القيم، مع غياب أي دور فاعل للدولة في غرس بذور المواطنة والوعي وتالياً تحرير هذا المشروع من مثاليته ومنحه قدرة تغييرية تفكيكية على الرغم من أن الفن غالباً ما يكون متعالياً عن الحياة اليومية والعادية، كالفن الرحباني مثلاً، وهو ما يتركه في معضلة تتمظهر في نقد هذا الفن للحياة اليومية وإخفاقه في إرساء هذا النقد في آن واحد. وربما عاب هذا المشروع، على الرغم من رِفعته وسموّه ورهافته، تركيزه على النزعة الفنية والبنائية على حساب الحس النقدي التغييري الهدمي.
بدا لنا أن الفنّ الرحباني حاول اتخاذ عالم الجمال مسكنًا له، واستمدّ المشروعية لقيم عالمه من ذواتها؛ أي جعل من فنّه هو الحياة بذاته عوضاً من تمثيله لها، وهنا ربما تكون وقعت في المحظور نتيجة أنها حمّلت نفسها ما لا طاقة لها عليه وأنها في حقيقتها أكثر هشاشةً من حمل أعباء هذا المشروع.
يبقى الإرث الفني الرحباني علامة مضيئة، أغنيةً ومسرحاً وشعراً، لكن لا بدّ اليوم من النظر إليه من منظور مغاير يأخذ بالاعتبار أبعاده كلها، الفنية والاجتماعية والوطنية والرمزية، وفق مقاربة علمية قوامها المناهج النقدية الحديثة بعيداً من الغنائية، مع أهمية تأويلها مجتمعياً.