لبنان، فاقةٌ بعد عِزّ...
21-09-2020 | 12:12
المصدر: "النهار"
كتب باسم عون
عندما تمرّد البحّار الصّوري الأمير علّاقة، في نواحي صور وشمالي الجليل، على استبداد الفاطميّين وغطرستهم، هُم الذين أفقروا السكّان فأغرقوهم في وضع اقتصاديّ متردٍّ، سكَّ نقودًا باسمه كتب عليها "عزٌّ بعد فاقة، الأمير علّاقة"، داعيًا إلى حكمٍ وطنيّ عزيز، كانت النهاية المؤسفة له بالمرصاد. نعم، فالكلّ يعلم ما انتهى إليه الأمير علّاقة، الذي سُلِخَ جلده وهو حيٌّ، وصُلِب على مدخل مدينة صور إثر حملةٍ بحريّة فاطميّة شعواء.
اليوم أيضًا، يبدو لنا أنّ لبنان يواجه على أيدي الفاطميين الجدد –من أتباع "الإقليم" الممانع تحديدًا، بمعزل عن غيرهم من أبناء طائفتهم الذين هم من لبنان الوطن النهائي في الصّميم- ما واجهه علّاقة المسلوخ حيًّا على حطام مدينته صور. نعم، فهذا اللبنان قد سُلِخَ حيًّا هو الآخر في وسط بيروت الذّبيحة... فكُرْمى لعيون القاهرة صُلِبت صورُ علّاقة، واليوم كُرمى لعيون ملالي "الإقليم" المُمانع يُصْلَب لبنان!
فواعجبًا! ألم يتّعظ الفاطِميّون الجُدُد من التاريخ؟
فالجنون الفاطميّ على عهد الحاكم بأمر الله وذرّيته، قد استجلب الحملات الصليبيّة التي لم يكن لها من وجود لولا الاستبداد الفاطميّ المذكور، من هدم كنائس وتنكيل بالحجّاج الخ... هذا ولا ننفي الدور الكبير لمصالح أوروبّا الإقطاعيّة في تلك الحملات، بما فيها من فرسان متعطّشين للقتال، وتجّار جشعين متعطّشين للمال والسلطة والأرض. وهذا ليس بغريب، فإنّ الدّوَل -كما اليوم- لا يحرّكها سوى المصالح، فنراها تقتنصُ الفرَص لوضع اليد أنّى أُتيح لها ذلك. وبرغم أنّ الكنيسة اليوم قد أدانت تلك الحملات، واعتذرت عنها وعن تداعياتها، إلّا أنّ ما حدث قد حدث... وكما أنّ تلك الحملات الفرنجيّة لا تمتُّ الى صليب المسيح بشيء ولا سيّما على الصعيد الروحيّ، كذلك هي الحروب والنزاعات التي قامت على ادّعاء صِلة النّسب بآل البيت. ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، نورد هذه الواقعة: عندما أَعلن المعزّ لدين الله الفاطمي نفسه خليفة، سُئل بخبثٍ عن مدى صحّة انتسابه إلى آل البيت، فأجاب أنّه سوف يخبر بنسبه في المجلس. وعندما اجتمع القوم، استلَّ سيفه من غمده قائلًا للحضور: "هذا هوى نسبي!"... وهذا ما قرأناه في التاريخ، والله أعلم.
ولكنّ التاريخ -الذي لم يقرأه من نحن بصدد التوجّه إليهم في هذه المقالة- راح يكمل سيرورته الحتميّة، فيذكر أنّ الخليفة الفاطميّ الأخير العاضد لدين الله كان قد ابتُليَ بضعف في الشخصيّة، وغياب وضمور في القرار، ما أفسح في المجال لعبث العابثين في الدولة؛ فراح وزراؤه الفاسدون يتناحرون في ما بينهم، فيتناتشون المغانم ومقدّرات البلاد، كما راحوا يتنافسون في الاستئثار بالنفوذ. وطال تنافسهم حتّى خرّبوا البلاد، والخليفة لا يستطيع عملًا... إلى أن بلغت الوقاحة بأحدهم، واسمه شاور، أن طلب التدخّل الخارجي لمؤازرته في القضاء على مناوئيه في الوزارة؛ فكان أن جاءه المدد من نور الدّين زنكي. فاستتبّت بذلك الأمور لشاور الذي تعهّد بدفع ثلث خرّاج مصر للفاتح (الإقليميّ) الجديد، ومن ثمّ استطاع رَجُل زِنكي، صلاح الدين، أن يضعَ يده على مصر ـويقضي بذلك على الخلافة الفاطميّة- لتعود مصر إلى كنف الخلافة العباسيّة.
بناءً على ما تقدم، إنّ أخشى ما نخشاه اليوم، أن يحتذيَ الغرب، وعلى رأسه أميركا، بصليبيّي القرن الحادي عشر، مغتنمين الفساد المستشري بين من بيدهم مقدّرات البلاد، ليضعوا اليد على ما تبقّى من هذا الوطن، مدفوعين بمصالحهم، ونكاية بشاور-وما أكثرهم عندنا- هذا الشاور المُصِرّ على الاستئثار بكلّ ما تبقّى، ولو دسّ للغريب ما تبقّى ممّا يسدّ رمق الشّعب اللبناني المنكوب، على ما جاء في قول الشّاعر:
عجوز تُرجّى أن تعود فتيّةً وقد غارتِ العينان واحدودبَ الظّهرُ
تدسّ إلى العطّار سلعةَ أهلها وهل يُصلحُ العطّار ما أفسد الدهرُ؟
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى -إذا استمرّ الوضع كما هو، من صراعٍ للدّيَكة على مزبلة الوطن- فليس بمستغربٍ أن يلوحَ طيف من يدّعي أنّه صلاح الدّين آخر، وإن تبدّلت لغته من الكرديّة إلى التركيّة، داعيًا الى استرجاع مجد المبراطوريّة العثمانيّة البائدة.
فرحمةً بلبنان وببنيه وبثقافته وبحضارته وبتمايزه كدُرّةٍ في هذا الشّرق، تعالوا إلى كلمةٍ سَواء، ولنُعِد بناء هذا الوطن بسواعد بنيه وأفكارهم، ولْندع المتربّصين شرقًا وغربًا، يعودون بخفَّي حُنَيْن، ولنُقِم هذا "الفينيق" من رماده، فنُرجِعَ مجدًا كان لنا، ونعود أمّةً عزيزةً لا تزدريها الأمم، والسّلام على من اتّبع الهُدى.