السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

موعد خجول

المصدر: "النهار"
رزان نعيم المغربي
الانتظار (تعبيرية-  Sandeep Rawal).
الانتظار (تعبيرية- Sandeep Rawal).
A+ A-
يلصق وجهه بزجاج نافذة غرفته، هي أعلى واحدة في المبنى المؤلف من طبقتين، ليست قريبة بما يكفي ليتفحص وجوه المارة في الشارع، لكنها ليست بعيدة، وتسمح له برؤية حركتهم سائرين. في العادة يحب التكهن بمشاعرهم بالذات، يفترضهم عشاقاً يشبكون أيديهم تحت مظلة واحدة، ويتمهلون في السير، يراهم من انعكاس مصابيح السيارات المسرعة على إسفلت الشارع المبلّل بالمطر، يصبح مثل بقعة متلألئة، وظلالهم أشباح بمعاطف كأنهم مشهد سينمائي، المساء المبكر في هذا الخريف يحمل دعوة خفية للجميع ليمضوا نحو المقاهي، والمطاعم التي تلائم مزاجهم، ويرى نفسه الآن داخل المشهد.
 
يستطيع أن يرى من نافذته بشكل واضح المقهى على ناصية الشارع المقابل، منذ استقرّ في هذا البيت أصبح مكانه المفضل، على رغم وجود مقاهٍ كثيرة في الجامعة التي يدرس فيها، لكنه لم ينجح حتى الآن بعقد صداقة مع أحد الزملاء مع أنهم ودودون للغاية. يعود مسرعاً، يعدّ وجبة صغيرة، يراجع دروسه، ثم يستعيد قصص كل الروايات التي تحكي عن إعجاب فتيات الغرب بملامح وشخصية الشاب القادم من جنوب المتوسط، كان يتصور تلك اللهفة التي افتقدها حينما اكتشف صعوبة البدء في حديث مع أي فتاة هنا.
 
بعض الأحيان تتهيأ له رؤية بخارٍ متصاعدٍ من فنجان قهوة، إذا ما وضعته النادلة الجميلة على إحدى الطاولات الملاصقة لنافذة المقهى، بالكاد يلمحها تطوف بين الطاولات، يتهيأ له أنها رفعت نظرها نحو الأعلى وابتسمت، يقول لنفسه: لديهم طريقة فريدة في تحميص القهوة التي تمنحها رائحة زكية ونكهة مميزة. تعوّد أن يرفع الفنجان قريباً من أنفه، يستنشق عبير القهوة قبل أول رشفة، ترتسم ابتسامة على شفتيه، وحالما يرفع رأسه يراها واقفة وراء آلة القهوة تعدّ فنجاناً جديداً لأحد رواد المقهى، تبادله تلك الابتسامة المشعّة، وتمضي في عملها بشكل طبيعي.
حينما تقترب مجدداً يتودَّد إليْها هامساً بأنهم يقدمون قهوة مميزة تجعله ينسى أسوأ ما مَرّ في نهاره كله، بل يصبح كل شيء أفضل الآن، تردّ عليه بتلك الإيماءة بأنها فهمت ما يرمي إليه تماماً.
 
يتمتم حالماً: - أرى نفسي جالسًا على هذه الطاولة، وأتناول آخر رشفات من فنجان قهوتي. أرى نفسي جالسًا في مواجهة النادلة، أحدق في النمش البني على وجنتيها، نتبادل النظرات.
هذه الأحلام العاطفية تغمره بالفرح والصفاء، لكنه لم يتجرأ على خوضها بعد. متعته أن يصبح في عمق المشهد، أن يجرّب ما يفتقده. نهض وارتدى ملابسه على عجل، لن يبقى هنا يراقب المشهد من بعيد، كل ما يريده في هذه اللحظة أن يكون إحدى مفردات المكان، أن يجلس ويصبح في مرمى نظر العابرين، أن يشتهي أحدهم تبادل الأدوار معه، كما يفعل الآن.
 
المساء يحلً سريعاً كلّما تقدم فصل الخريف مقترباً من الشتاء، يعبر الباب نحو الداخل، يستشعر روائح عطور جميلة، الطقس البارد يسمح لأي عطر بالتسلّل إلى حاسة الشم بقوة أكبر، يجلس في ركنه المفضل، تأتي مسرعة نحوه، يبتسم قائلاً: المكان يحجز نفسه لي أليس كذلك؟ تومئ بأنها تفهمه، يستمرّ في مديح المكان وكأنه يراه لأول مرة: هناك ذوق رفيع في اختيار الثريات الصغيرة المعلقة في السقف، يشير إليها بينما ترفع رأسها، يحدق في عنقها الطويل متمهلاً ويكمل وصفه: يبدو توزيع الإنارة الخافت متساوياً، ويمنح المكان كثيراً من الدفء.
 
تهمس: بأن الطقس بارد خارج المقهى على أي حال، تذهب وتعود إليه بفنجان القهوة، ونظراته تبحث عن تفاصيل جديدة، لعلّه يتمكن من كيل المديح ويلفت انتباهها، حالما يتصادف مرورها مجدداً بمحاذاته أثناء تلبية طلب ما.
 
يراقب الآن وهو جالس في المقهى كيف تبدو نافذته، ظهرت أبعد مما تخيّل، على رغم أن ظنونه لطالما هيّأت له بأنه مرئي لمن يجلس في المقهى، هزّ رأسه خائباً، يفكّر أنها لم ترَه ولو مرّةً بشكل واضح، لكنه بات يحفظ تفاصيل المقهى جيداً، كل ركن فيه، ومن السهل استحضار شكل الإناء الزجاجي الممتلئ بحبوب البن المحمصة، على رفٍّ خلف آلة القهوة، وألوان الفناجين وأشكالها التي تبدو كأنها صنعت من خزف أزرق قديم، والآنية الزجاجية المستديرة فوق رفّ البار، ترتمي فيها أعواد من القرفة وحبات البندق وقطع جافة من ثمار الصنوبر بحراشفها المفتوحة، تُذكِّره باقتراب موسم الأعياد وزينة شجرة الميلاد، يقطع شروده صوت الأسطوانة القديمة، تبدأ بالدوران؛ تمر الإبرة ببطء، تلمسها ثم تصبح أسرع، الموسيقى يختارها صاحب المقهى، يقف بين الحين والآخر ببذلته الداكنة وربطة عنق حمراء متأمّلًا وجوه الرواد يرفع يده بالتحية لمن يألف وجوههم، هذه المرة أومأ له مع ابتسامة ودود.
 
ارتشف قهوته بمشاعر رضى أحسها لأول مرة منذ أن بدأ يطأ هذا المكان، وقرّر ألّا يفسد اللحظة بمزيد من التكهنات، فجأة اقترب منه صاحب المقهى، شعر بارتباك، حين قال له: إنه محل ترحيب، لأنه معجب بخدماتهم اللطيفة، كما أخبرته النادلة، ارتاح لكلامه، وردّ عليه بأنه اعتاد قهوتهم الإيطالية، ولأنه من سكان الجوار، يفضل أن يكون آخر من يغادر ليستمتع بأجواء المقهى المريحة، تحدث بلغة البلاد، وشعر أنه ارتكب خطأ في اللغة، ابتسم الرجل وأخبره: كلنا أتينا من مكان ما إلى هذه البلاد، بعد وقت قصير سوف تتحدث وتُعبِّر عن نفسك بشكل أفضل. في حال التحقت بعمل مثلاً، سوف يكون مصدر دخل وفرصة إتقان اللغة، توقف الرجل لحظة عن الكلام، ثم تابع: بكل الأحوال لدي فرصة جيدة أقدمها لك، فكّر بالأمر! ثم استدار عائداً ليقف خلف البار العالي، اختفى نصفه تقريباً، بدا منشغلاً بالحديث مع النادلة الأخرى وهي سيدة تجاوزت الخمسين من عمرها.
 
العرض المفاجئ من صاحب المقهى ناصحاً إياه بعدم إهدار وقته كما فهم، زادت مشاعره ارتباكاً، فكّر في أنه لا يحتاج نصيحة بقدر ما يحتاج إلى شخص ما يستمع إليه، يرافقه، يتحدث معه عن بلاده كيف جمّدتها الحرب لعشرين سنة مقبلة كما يظن، عن جرحه وفقده اللذين يقاومهما بكثير من الأحلام، عن امرأة تومئ برأسها بأنها فهمت عليه، دون شرح المزيد من التفاصيل، امرأة لطيفة مثل النادلة الشابة مثلاً... فاجأه في تلك اللحظة خاطر هزه من الأعماق وسأل نفسه: ماذا لو أن صاحب المقهى أراد الاستغناء عن خدمات الشابة الجميلة؟ بالطبع لن يقبل بالعرض، بل لن يذهب إليه ليوافق عليه من الأساس.
 
غادر الرواد المقهى، نظر إلى ساعته، ونهض متباطئ الخطوات ليدفع الحساب، كانت النادلة الشابة تقف إلى جوار صاحب المقهى، بادره الرجل قائلاً: إذا كنت تود العمل أرجوك رافق السيدة الشابة إلى مطعم إيطالي يملكه شقيقي هنا، ليس بعيداً، مطعم أنيق يقفل في ساعة متأخرة، ثم وضع يده على كتفه بترحاب، ورفض أخذ حساب فنجان قهوته.
أصبحا جميعاً في الخارج، كان المطر رذاذاً خفيفاً لا يحتاج إلى مظلة، نظر إلى الشابة التي أصبحت رفيقته إلى مطعم بشكل مفاجئ، كانت تبتسم، ولأول مرة يستمع إلى صوتها واضحاً وجليًّا وهي تخبره: إذا لم يعجبك العرض فيمكنك أن تحظى بوجبة لذيذة!
- طبعاً يسرّني أن تقبلي دعوتي للعشاء!
 
- هزّت رأسها بالموافقة وهمست تشكره، بينما سارا معاً. فكّر بأصحاب البلاد كيف يعتنون بمشاعر الغرباء، ما فعله صاحب المقهى في هذه اللحظة، أيقظ داخله دفئاً كان يبحث عنه ويفتقده!
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم