الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

رحيل إيفا زاورالوفا، "الدكتورة" التي أنقذت كارلوفي فاري

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
الراحلة إيفا زاورالوفا.
الراحلة إيفا زاورالوفا.
A+ A-
عن قرابة التسعين عاماً، غادرت السيدة الكبيرة إيفا زاورالاوفا. هذه الناقدة والصحافية المتمرسة والمترجمة ترأست الإدارة الفنية لمهرجان كارلوفي فاري التشيكي لستة عشر عاماً. كانت كبيرة، قيمةً وأخلاقاً وتجربةً. لسنوات، كنّا نجدها في كلّ مكان نذهب اليه: كانّ، برلين، البندقية وغيرها من الأمكنة التي تعرض كلّ مستجد ومثير سينمائياً. ظلت على هذه الحال حتى منتصف الثمانينات من عمرها، حتى بات يصعب عليها التنقّل، فسلّمت الدفّة لكاريل أوخ. لكنها ظلت مستشارة حتى رحيلها. المهرجان نعاها على موقعه الإلكتروني بالقول: "بعض الأخبار نتمنى لو انها لا تأتي".

زاورالوفا من رموز النقد السينمائي التشيكي، وكانت من الذين ساهموا في تطويره على مدى العقود. هي من الذين عرّفوا بسينمات أوروبية غير منتشرة في بلاد كافكا، مثل السينماتين الإيطالية والفرنسية.

لم ألتقِ سيدة شغوفة بالسينما مثل إيفا. حاورتها عن تجربتها مطولاً وحدّثتني بلغة فرنسية جيدة. في بعض المرات عندما كنت أراها في مهرجان تتوجه من مكان إلى مكان، بخطى سريعة وأكيدة، كنت أستغل الظرف لأحدّثها عن الأفلام. ما لفتني فيها دائماً هو انها تدخل في الحديث مباشرةً بلا مقدّمات. كانت سيدة الفصول السينمائية الأربعة. "مسبعة قارات" أنقذت مهرجانها من براثن الشيوعية.

حكاية زاورالوفا حكاية نضال سينمائي. فهي، في العام ١٩٩٤، أي بعد خمس سنوات من الثورة المخملية في براغ التي أنهت أربعين عاماً من الشيوعية، تسلّمت مع الممثّل ييري بارتوشكا (رئيس المهرجان) شيئا أقرب إلى حطام مهرجان، لكنها أصرت على النهوض به، فقامت بنفضة غير مبسوقة في المهرجان. اصلاح جذري أعاد البريق والبرستيج إلى هذا الحدث الذي بات أحد المواعيد التي لا تفوَّت ضمن الرزنامة السينمائية. فكارلوفي فاري، الذي كان يعاني في زمن الشيوعية من تحويل السينما إلى آلة ضغط وبروباغاندا، ولم يكن يعرض الا ما يُعرف بـ"الأفلام الصديقة" في ظلّ النظام القائم آنذاك، تخلّص بفضل زاورالوفا وفريق عملها، من كلّ ما كان يجعل هذه التظاهرة واجهة رسمية للعقيدة السوفياتية والسينما الملتزمة بفكر سياسي أوحد. كانت نفضة أضحت مدعاة فخر عند زاورالوفا وكانت تتحدّث عنها دائماً. حين وقع الستار الحديد، وانقشع ما انقشع، و"عادت" تشيكيا إلى قلب أوروبا النابض، بدأ المهرجان يجني ثمار مثابرته، إلى أن صار في السنوات الأخيرة مزيجاً عجيباً غريباً من الثقافة والفنّ والترفيه.

المرة الأولى التي حضرت فيها زاورالوفا المهرجان بصفتها صحافية كانت في العام ١٩٧٠. روت زاورالوفا المراحل المختلفة التي مر بها المهرجان قبل تسلّمها زمام الأمور: "من الغرب لم يكن في استطاعتنا مشاهدة الا السينما الملتزمة سياسياً. كان يأتينا كوستا غافراس أو أندره كايات. كانوا سينمائيين أوروبيين في معظمهم. السينما الأميركية كانت شبه غائبة. وأعتقد أننا كنّا نبالغ في مشاهدة الأفلام الروسية، أو تلك التي كانت تبعثها الينا الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي في آسيا. ولا ننسى الأفلام المجرية التي أُنجزت آنذاك في رعاية رسمية. لذلك، قلتُ وأكرر ان المهرجان كان يحتضر، لأن المشاهدين لم يكونوا يهتمون بما يختار لهم. أتحدّث تحديداً عن السبعينات والثمانينات. في الستينات، كنّا نقدّم الكثير من الأفلام اللاتينو أميركية. وكان كارلوفي فاري يتمتّع بصيت جيد. كان له تاريخ مجيد وعصر ذهب وكان مرجعاً للفيلم السياسي، لكن فقط ذلك الذي كان يستجيب للعقيدة الاشتراكية. حتى أفلام غودار التي كانت تُعتبر سياسية، كانت غائبة عن المهرجان. كنّا نرى البعض منها في الصالات التجارية. شاهدنا تروفو ورومير لكن ليس غودار. كانت الموضة آنذاك للكوميديات الفرنسية والإيطالية. والناس كانت تحبّها. الكوميديات التي لا تزعج أحداً. بعد الاحتلال، أي في عام ١٩٦٨، عقب التطبيع الاقتصادي المزعوم، بات المهرجان واجهة للمظاهر الرسمية وفقد الكثير من ألقه. وفي عام ١٩٩٠، عقب أحداث تشرين الثاني ١٩٨٩، أخرجنا كلّ الأفلام التي كانت تحت الحظر. وعاد الكثيرون إلى المهرجان، من ميلوش فورمان وإيفان باسر. ابتداء من عام ١٩٩٤، تاريخ تسلّمي الإدارة، سعينا إلى تشكيل برنامج لافت، وكان هدفنا جذب انتباه الشباب، وصولاً إلى أن صار عدد المشاهدين في الدورة الواحدة نحواً من ١٤٠ ألفاً، معظمهم فتيان، خلافاً للمهرجانات الأخرى حيث معدّل العمر أعلى بكثير".

التغيير الذي طرأ على المهرجان في عهد زاورالوفا، شمل جوانب عديدة، منها البرنامج على وجه الخصوص، والبحث الدؤوب عن أفلام من الشرق والغرب. في مقابلتي معها، كانت تفتخر بأنها وأعضاء فريقها باتوا أحراراً لا أحد يفرض عليهم فيلماً أو ضيفاً. روت لي زاورالوفا بفخر: "لم تعد تمارَس علينا ضغوط سياسية. لسنا ممولين من الدولة. وزارة الثقافة تسندنا بجزء من الموازنة. منذ ١٩٨٩، صارت لنا استقلالية واسعة وسيادة. والمهرجان تموله مجموعة رعاة. ثلاثة أرباع الموازنة هي أموال خاصة لا عامة. رئيس الجمهورية يوجّه لي أحياناً انتقاداً حول فيلم قائلاً: "لم يكن ينبغي اختيار هذا الفيلم، لم أحبّه". هذا أقصى ما يُمارس علينا من رقابة!".

ما تغير أيضاً هو نوع الجمهور. سابقاً لم يكن المشاهدون من الشباب، بل كانت أروقة قصر "ترمال" مملوءة بالوفود الرسمية. أما المدينة نفسها فتغيرت كثيراً. "قبل التحرير"، روت زاورالوفا، "كانت البيوت رمادية اللون وكئيبة. اليوم هي مدينة منشرحة وتملأها المقاهي والحانات، وواجهات المنازل تبتسم لك".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم