السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

ذهنيات متباينة للطوائف وشعبوية ومخادعة... علم النفس التاريخي والعيادي في علاج لبنان

المصدر: "النهار"
الوجع اللبناني (تعبيرية- أ ف ب).
الوجع اللبناني (تعبيرية- أ ف ب).
A+ A-
 
أنطوان مسرّه

ما الذي يفسّر، خلال السنوات الأخيرة في لبنان، وبخاصة منذ 2005، تعبئة لبنانيين، حتى من هم متعلمين، من خلال ايديولوجيات وتوجهات بعيدة تمامًا عن الفكر النقدي وكل صدمات الواقع؟
 
تشمل دراستنا في علم النفس التاريخي، أي كيفية تلقي القارئ وتأويله لأحداث الماضي، وفي علم النفس العيادي، الذهنيات لا من منطلق الصدمات والمكبوتات الفردية ولدى جماعات، أي ما تم غالبًا دراسته في لبنان، بل ذهنيات الطوائف المتباينة والنابعة من خبرات الماضي ومخاطر عودة مكبوتات تستفزّها تيارات تعبئة نزاعية.

1. ذهنيات وثلاث حالات فطام: تتغذى الذهنيات في لبنان وتنمو من خلال ثلاث حالات فطام sevrage: الواقع الجغرافي للبنان الكبير، والمخيلة الجماعية للدولة، وعقدة الباب العالي.
 
نعني بعلم النفس التاريخي ما لا يهتم به غالبًا التاريخ كعلم يسعى كما يتوجب في البحث عن الوقائع والتأكد من صدقيتها ومصادرها، مهملاً بذلك ادراك المتلقي وتفسيره وتفاعله واسقاطه أو عدم اسقاطه الماضي على الحاضر واستخراجه عبرًا أو عدم استخراجه من خلال خبرة المتلقى الذاتية وعيشه وادراكه للأحداث.
 
هل يقتضي التغيير في سرد الوقائع التاريخية؟ كلا، لان هذه المنحى هو تشويه وتذوير. المطلوب في علم النفس التاريخي موضعة الأحداث contextualiser في زمنيتها ومكانيتها السياسية والاجتماعية الاقتصادية وتاريخ الذهنيات. هذا ما لا يفعله غالبًا مؤرخون، لبنانيون وعربًا عمومًا، مُتجاهلين المتلقي أو، ما هو اخطر، مُتعمدين اسقاط الماضي في الحاضر.
 
من المؤكد أنّ مجزرة Saint-Barthélémy في باريس والتي امتدت الى أكثر من عشرين مقاطعة في فرنسا في 23-24 آب 1572 يُدركها الفرنسيون اليوم بأنها من الماضي. لكن أحداث 1860 في لبنان، وفي كتب التاريخ المدرسية، يتم وصفها بدون موضعتها، مكانًا وزمانًا، مما يؤدي إلى تأويلات نزاعية في الحاضر واسقاطها في الحاضر في ما يتعلق بالعلاقات بين الطوائف.
 
اختمرت فكرة هذه المقاربة مع الزمن في اطار أعمال المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبصفتي أيضًا عضوًا في لجنتي "التربية المدنية" و"التاريخ" في خطة النهوض التربوي في المركز التربوي للبحوث والانماء في السنوات 1996-2002 بإشراف البروفسور منير أبو عسلي.

2. ملاحظات وشهادات عيادية: يعبّر كتابان، في فترات مُتباعدة، عن الذهنيات الطائفية المتمايزة في لبنان خلال سنوات الحروب في 1975-1990 وبعد وثيقة الوفاق الوطني – الطائف وبروز استراتيجية شعبوية بعد 2005. يتوجب عدم قراءة المقاربة في علم النفس التاريخي وعلم النفس العيادي من منطلق تبرير أو اتهام سياسي لهذا الفريق أو ذاك. المقاربة مختلفة تمامًا.
 
نجد في الكتاب - الوصية لكمال جنبلاط، الصادر أولاً بالفرنسية (Pour le Liban, Stock, 1977))، وشرط قراءته من منطلق ثقافي وعلم النفس: المثالية والاوهام والخيبة والمرارة، وفي الختام الحكمة المختبرة والاختبارية.
 
الكتاب- الوصية هو كتاب حكمة ونقد ذاتي، أي ما هو نادر جدًا في الذهنية العربية، وليس كتاب سجال. الكاتب Philippe Lapousterle، الذي أجرى مقابلات عديدة مع كمال جنبلاط، يدرك هذا الجوهر من خلال خاتمته في الكتاب حيث يقول: "ليست العقلانية ركيزة السياسة في الشرق الأوسط (...) والأمل في انتصار العقل والتسوية الحقيقية، كما يراها كمال جنبلاط".
 
في الكتاب تفاصيل دقيقة عن الذهنيات المتباينة والمخيلات الجماعية وأيضًا مخادعات الجوار. يتجنب كمال جنبلاط في كل الكتاب التحقير والتعميم. يذكر، بخلقية فكرية قصوى، هذا القول لوزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام: "الوطنيون الحقيقيون في لبنان هم جماعة الكفور" (ص 193). نفهم بالتالي لماذا استهدفت التفجيرات الإرهابية هؤلاء الوطنيين وغيرهم من طوائف أخرى وكمال جنبلاط بالذات. تتصادم الذهنيات المتباينة والمكبوتة مع "حلم قديم لبعض رجال السياسية السوريين وهذا منبع العنف الذي هو وليد الكذب".

3. علم النفس وعلم النفس العيادي تفسيرًا للسلوكيات: في سبيل تفسير ظواهر شعبوية نرجيسية مرضية، نعتمد كتابًا آخر صادر في مرحلة سلمية، وليست بالضرورة مسالمة بشكل كامل بعد وثيقة الوفاق الوطني – الطائف في 1989. انها مرحلة لم يعرفها كمال جنبلاط الذي اغتيل في 16/3/1977 وهي مرحلة تدعم كل ملاحظاته حول الذهنيات. انه كتاب محمد أبي سمرا ووضاح شراره (أقنعة المخلص...، دار النهار، 2009). جمع المؤلفون شهادات مناضلين ملتزمين ومخدوعين. في مقدمة الكتاب يذكر المؤلفان ظواهر غريبة، ومسرحية، وشرود ذهني، "وخبريّات"، وصعوبة الفهم، وحسابات نرجسية... لا يُشكل الكتاب وصفًا شاملاً اذ يقتصر على سبع شهادات.
 
لا علاقة ولا ترابط بين الوقائع وتفسيرها الذهني، ولا نقول تفسيرها العقلاني. لا نصحّح إدراكًا ذهنيًا في علم النفس من خلال تعديلات في النصوص، أو من خلال براهين في المنطق. طبيعة المعالجة نفسانية وتربوية على المخيلات الجماعية.
 
تؤدّي انحرافات وتشوّهات الديموقراطية في عالم اليوم، وامتداد وسائل التواصل الجديدة والشعبوية والديماغوجية مع وانتشار تيارات فلسفية تبريرية، إلى القول التالي: لا يوجد وقائع بل تأويلات ( Il n’y a pas de faits, mais des interprétations)! انه قول يشوّه كل نظرية الشكل gestalt. ينبع عن ذلك الحاجة القصوى في التعمّق في مفهوم الواقعية réalisme وتنمية الفكر العلمي esprit scientifique في وسائل التنشئة.

4. علم النفس التاريخي بشأن لبنان الكبير: لا علاقة للعلاج النفسي بالنصوص الدستورية ولا علاقة له بواقع أحداث الماضي وأشكال ممارسة الحكم. تعيش مخيّلة مارونية لبنان الصغير! وتعيش مخيّلة درزية المكانة الدرزية – المارونية في الجبل! وتدرك مخيّلة نفسية أخرى ميثاق 1943، خلافًا لمعطيات تاريخية، كأنه حصرًا توافق ماروني – سني! وتحمل مخيّلة نفسيّة شيعيّة هاجس الاقصاء عن البنيان اللبناني...ّ ويتم التمييز تجاه هذه الذهنيات بين طوائف أساسية وطوائف غير أساسية! يعني ذلك أن اللبنانيين أعلنوا لبنان الكبير مع استمرارية لبنانات الماضي من خلال تاريخ تقليدي، وبدون التنبّه إلى مخاطر تعبئة هذه الذهنيات وبدون ادخال لبنان الكبير في سياق ثقافي وتربوي.

5. علم نفس الدولة في لبنان: يطغى تصوّر الدولة كجهاز خارجي عن المواطن في علم النفس التاريخي لدى اللبنانيين. كانت الدولة تاريخيًا قبل استقلال 1943 دولة غريبة محتلة أو منتدبة. الدولة في الادراك النفسي اللبناني هي غالبًا الباب العالي، ما يُسميه غسان تويني "عقدة الباب العالي". الدولة في الادراك النفسي اللبناني جهاز خارجي عن المواطن. يتمظهر ذلك من خلال سلوكيات عديدة. نسمع موظفًا في ادارة عامة أو متقاعدًا عمل في الإدارات العامة طيلة ثلاثين سنة ينتقد "الدولة" وكأنه غريب تمامًا عن المؤسسة حيث كان يعمل ويتقاضى راتبًا من المال العام.
 
صورة الدولة في الادراك النفسي ضبابية. يستعمل اللبناني عبارة دولة في كل الشؤون! اذا خالف عامل في البلدية أنظمة البلدية يقول اللبناني: ما في دولة! إذا تعرقلت معاملة إدارية في وزارة الأشغال يقول: أين الدولة؟ واذا كان مستوى التعليم متدنيًا في مدرسة رسمية يقول: ما في دولة!
 
تستعمل منطقيًا عبارة دولة حصرًا في القضايا المسماة ملكية (droits régaliens, rex, regis, roi) وهي: احتكار القوة المنظمة، واحتكار العلاقات الدبلوماسية، وفرض الضرائب وجبايتها، وبناء السياسيات العامة. في كل الحالات الأخرى يتوجب ذكر المرجعية: المجلس النيابي، الحكومة، وزارة الاشغال، البلدية الفلانية...
 
ما هي سُبُل التوفيق بين الدولة الآحادية monolithique القوية بذاتها والتي ينتظرها اللبنانيون دفاعًا عن السيادة ونوعية الحياة ومستقبل الأجيال، وبين التمسّك الغريزي لدى اللبناني بالحريات؟ يشكو اللبناني، الذي يتمتع بصفات رائدة معترف بها عالميًا، من ازدواجية schizophrénie، اذ يُطالب بدولة قوية، وأيضًا بالحريات لدرجة الفوضى كما يلاحظه العديد من الأجانب.

6. الذمية وتحالف خارج الطبيعة وباب عالٍ مُستجد: ما يُفسّر نجاح حملات شعبوية وتعبئة مسيحيين وطوائف أخرى إسلامية، هو ذهنية الدولة "القوية"، ليس بالمعنى الدستوري، بل المستقوية بتحالف خارجي ويعيش لبنانيون بذلك عودة الحمايات الأجنبية.
 
***
يعيش لبنان حالة انكار déni وتحويل transfert بشأن ما يرد في هذه الدراسة. يتوجب على المريض الاعتراف بحالته المرضية، والاقرار أنه يحتاج الى معالجة مختلفة عن النصوص الدستورية، وأن يتبع الوصفة في سبيل العلاج.
 
ان لبنان، بدون معالجة من خلال تأريخ متميّز في علميّته عن دراسة الفيزياء، وبدون تربية ومثاقفة في انسجام مع لبنان الكبير، هو معرّض لحروب ألف سنة بالرغم من كل الجهود!
 
المؤلفون الذين ينكبّون اليوم في العالم على دراسة الظواهر الشعبوية واستغلال الغرائز في التعبئة النزاعية يعتبرون أن الظاهرة الشعبوية غير مدروسة بشكل مُعمّق. تنطلق الدراسة الجدّية من علم النفس التاريخي وعلم النفس العيادي.
 
 
مقتطف من بعض الدراسات الحديثة التي تصدر قريباً في كتاب حول الجذور الثقافية وفي علم النفس التاريخي للسلوكيات في لبنان.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم