الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

المبنى القديم

المصدر: "النهار"
رزان نعيم المغربي
مبنى قديم (تعبيرية- Murari Purkait).
مبنى قديم (تعبيرية- Murari Purkait).
A+ A-
دفع الباب بيده اليمنى، بينما يده اليسرى ما زالت تدفئ يدها مستسلمة، لم تسأله إلى أين، منذ التقيا عند إشارة المرور، حيث تتقاطع أربعة شوارع واسعة، وسط المدينة، قريباً من الميناء.
وقفت في مدخل المقهى ذي الطابع الغريب، بدا لها من الخارج بيتاً بطراز معماري مختلف عما حوله لأول وهلة، فهو يعترض سلسلة بيوت متلاصقة، في زقاق خلفي صاعد، قفزت خطواتهما إليه بخفة فوق الأدراج الحجرية، إلى اليسار كان يبرز ببنائه المميز، تصطف سلسلة بيوت متراصة بنيت على طراز قديم، واجهتها مطلية بألوان مبهجة، وفي نهاية الزقاق قابلهما بواجهة حجرية ذات لون قرميدي داكن، يبدو مظهره متمرداً عما يجاوره، فهو يقفل سلسلة البيوت مشكلاً معها زاوية قائمة، لا يوحي بأنه مقهى لعابر الطريق، إلا لو لفتت انتباهه المظلة الحمراء فوق مدخل الباب الرئيس، أخبرها بهذا أثناء اقترابهما من المكان:
 
- عندما تشرق شمس الربيع، توضع بضع طاولات وكراس وتحتل جزءاً من هذه المساحة التي يصبح فيها الزقاق أوسع لو واصلا الصعود.
يبدو وكأنه نصف بيت من طبقتين، تنسدل على نوافذه ستائر الدانتيل البيضاء، وتزينها أحواض نباتات، زرعت بأزهار الجورنيوم الحمراء، في الواقع النصف الثاني اختفى، وما يدل على ذلك الواجهة المثلثة التي تعتليه، تُظهِر نصفها والنصف الآخر يغطس في سطح البيت المجاور له، نافذتان علوية والثانية للطبقة الأرضية، والباب الخشبي شبه ملتصق بالجدار، نصفه الأعلى زجاج مصقول والنصف الثاني مطلي بلون بني داكن. خطر في بالها أن معظم إشارات هذا المساء تضعها في المنتصف، لا دليل على يقين ولا دحر لشك قائم.
 
Luigi Moretti.
 
ساعدها في خلع معطفها المطري المبتل، وأسرع بوضع مظلته في سلة نحاسية بجانب بعض مظلات رواد المقهى، استشعرت دفء المكان، تصاعدت روائح توابل حادة إلى أنفها، شعرت لحظتها بجوع مباغت، مع سماعها لطرق ملاعق بخفة فوق الأطباق، ازداد شعورها بالجوع، تأملت المكان بدا أوسع مساحة مما تراءى لها وهي في الخارج. وقالت مبدية إعجابها بالمكان إنه مدهش، سارع للرد بأن خلف كل مبنى جميل ماضياً قاسياً. فهمت أنه سيبدأ بسرد قصصه الخيالة وابتسمت خلسة.
 
لكنه تابع: كنت سأشعر بالأسف لو أكملتِ سيرك وغادرتِ هذا الحي من دون تذوق نكهة القهوة المعدة بطريقة تقليدية، في هذا المكان!
ردَّتْ بسرعة: ولو لم أتناول ما يعدّونه في المطبخ الآن أيضاً.
ابتسم لها وهي تبدو مفتونة بكل ما حولها، تتأمل المكان خلف البار المصنوع من خشب الجوز، وكأن تعديلاً ما حدث عليه ليكون مختلفاً، بإضافة رف يقابل الطاولات وضعت فوقه قوافل من القوارير الزجاجية ذات الغطاء المعدني، وفي داخلها حبوب قهوة محمصة بدرجات متباينة، لحبات القهوة الساحرة، أشارت إلى جمالها، استغل فرصة تحضير طلبهما وأخذ يروي لها حكاية المكان، بدأت من قصة حب، دخلت فيها الخيانة والغدر والرحيل، تفاصيل لا يجيدها سواه، وشعور الجوع ينغّص عليها الاستمتاع إلى ما تسميه كذبه المسلي.
 
@reham_m_a.
 
كان من بين رفاق الحي الذي كبرا فيه، يعرفون محبته لسرد القصص بطريقة ذكية، يقنعهم بأنها حقيقة، وأنه شاهد على الأحداث، ثم يكتشفون شطحات خياله، بعض الأحيان تحمل حكاياته جزءاً يسيراً مما جرى، إلا أن إضافته كانت مسلية، كلما التقته مصادفة لا تدري كيف تقبل أن يقودها للإنصات إليه، غالباً ما يفعل ذلك مع الجميع.
 
كان غارقاً في سرده الجذاب لكل تفصيل في المقهى، لكل شيء حكاية يعرفها عنه، لدرجة يشك من يسمعه بأنه صاحب المكان، قاطعت كلامه وأخبرته أن آخر ما كانت تفكر فيه هذا المساء أثناء ذهابها نحو البيت هو أن تلتقي به في الجهة حيث كان يقف، في الجهة المقابلة بانتظار فتح الطريق للمشاة، كانت شاردة ومتعبة، عائدة من العمل، تفكّر بملاذها الأخير؛ عشاء خفيف وسريرها وكثير من مشاعر الوحدة وسألته: عن نوع الحساء الذي يقدم هنا؟
ابتسم، وأشار بيده للنادل الشاب الذي استجاب سريعاً. بدا أنه على علاقة وطيدة بالمكان، من خلال حديثه الودود معه، لم يسألها ما تريد، بل سارع إلى طلب حساء البازلاء، واللحم أولاً. كانت ترغب في حساء اليقطين الحار مع شرائح حب الجوز، لكنها فضّلت ألا ترفض اختيار رفيقها.
 
عادت تتابع النادل وهو يدخل من فتحة باب صغير بجانب البار، ويختفي عن نظرها، الذي علق فجأة على صندوق خشبي وضع بعشوائية على زاوية البار. عادت تلتفت إلى صديقها تسأله: هل رأيتَ ما كتب على الصندوق "كلّ ما تحتاجه هو الحب"؟ هزّ رأسه موافقاً، وكان صوت صرير جهاز القهوة مسموعاً ورغوة اللاتيه ترتفع فوق الفنجان بشكل شهي، رائحة الفطائر على صينية التقديم تمر سريعاً لتلبية طلب أحد الزبائن، أدخلها المشهد في عالم مريح، كل ما رغبت فيه في تلك اللحظة أن تتأمل وتستمع إلى أي شيء يجري حولها. اقترب منها وسألها: أعجبك الصندوق القديم؟ ردّت بسرعة: مذهل وجميل وغريب مثل كل شيء، ما لا أفهمه، لماذا حافظ على طراز قديم؟ وحتى في الزاوية خلف البار يوجد موقد وعليه إبريق القهوة الإسبريسو؟ كانت لديه ردود جاهزة كما توقعت، وأن قصة حب وراء وضع الصندوق وأن عمره من عمر المكان، ثم ارتبك وتنصّل لأول مرة من إتمام الحكاية وسألها: أما زال ذوقك في اختيار الرجال سيئاً؟
ارتبكت، لقد أعادها إلى قصة تحاول نسيانها، انفصالها عن خطيبها، وأنقذها حضور الطعام، كان النادل يضع الأطباق ورفيقها يطرح عليه أسئلة من نوع، هل عادت مرة أخرى، ويضحك، النادل كان حريصاً على الإجابة بإيماءات غامضة، كان محرجاً، عكس رفيقها المتبسط معه.
 
شرعت في التهام قطعة اللحم مع الحساء بشهية، فيما استمر يتحدث ويسألها عن آخر مقالاتها، وأنه يقرأ كل ما تكتبه، وبين جملة وأخرى يلمح أن ما تكتبه يشي برسائل حب إلى شخص ما، كان يحاول استدراجها، لكن تعبها وشعور بالجوع غلباها فلم تتجاوب مع فضوله.
بحماس شديد أعلن انه حان وقت التحلية مع القهوة الفريدة بنكهتها، أشار للنادل فأتاه متعجّلاً، كانت بدورها تراقب تلك العلاقة بينهما، في داخلها إحساس الصحافي، غير أنها لم تكن جاهزة لفتح مواضيع أكثر معه هذه الليلة، بسبب الإرهاق من يوم عمل طويل، مع هذا انتفضت معارضة طلبه فطائر القرفة، وهو يعلم عشقها لفطيرة التوت، وقف النادل في حيرة، ثم نظر إليها بشكل يبدو غريباً لم تألفه من عامل في مقهى، فطلبت منه بصوت آمر: لا تستمع إليه أريد فطيرة التوت، ذهب لإحضار طلبها، نظرت إلى رفيقها، كان يهز رأسه مبدياً استغرابه، اقترب منها وقال لها: لقد تقصدت دعوتك إلى هذا المكان، لأنني أتوق لإصلاح علاقتك بخطيبك، حاولت مقاطعته، استمرّ بعناد من يسيطر على الموقف العارف بخفايا الأمور، وأخبرها بأن خطيبها يأتي بشكل دائم إلى هذا المقهى، ويتناول فطائر القرفة المحلاة، وهو من أخبره بأنه يحن إليها، وأن بينهما سراً صغيراً حول تفضيلهما لفطائر القرفة!
 
حينما أقبل النادل حاملاً فناجين القهوة والفطائر، أخذ يتشاغل بهاتفه، بدا وكأنه يقرأ رسالة نصية ذات أهمية، ثم وقف على عجل، اعتذر منها بأن طارئاً حدث يستدعي خروجه.
 
لم يمنحها فرصة الكلام، تلك اللحظة شعرت أن المشهد يتكرر أمامها، تذكرت كيف تشاجرت مع خطيبها السابق قبل انفصالهما، كانا في مقهى، وكانت خلافاتهما وصلت إلى حد لا يمكن الرجوع فيه إلى الوراء، وانسحبت غاضبة وتركته وحيداً. الآن تشعر بأن النادل ربما يظن بها الظنون، وأن هذا الرفيق حبيب غاضب هجرها، ارتشفت بعض القهوة وذهبت لدفع الحساب، حاولت أن ترسم ابتسامة هادئة وتتحدث معه في لامبالاة، وكأن لا شيء حدث، وقعت عينها على الصندوق الذي حفرت عليه عبارة "كل ما تحتاجه هو الحب" أبدت إعجابها به، وبانتظار قائمة الحساب، ابتسم لها النادل وقال: لا أدري لماذا من يأتي رفقة هذا الرجل يلفت انتباهه هذا الصندوق؟ اتسعت حدقتاها بدهشة، وسألته كل من يأتي معه؟
 
 
ردّ عليها: نعم ودائماً يخرج ويترك من معه يدفع الحساب، لكن هذه المرة الثانية التي يجادل فيها غيرك على فطائر القرفة!
- كيف؟ لم أفهم المقصود تماماً؟
- سبق أن أتى مع شاب يبدو صديقه، وألحّ عليه بطلب فطائر التوت، لكنه لم يقبل، وأصرّ على فطائر القرفة، واليوم فعلت مثله! عاندتِ رغبتَه.
استندت بمرفقها على البار، وأخذت تتأمل المكان مجدداً، ثم التفتت إلى النادل وسألته مجدداً: هل هذا الصندوق أثري وقديم؟ ابتسم لها وأخبرها أنه هدية من رفيقها الذي وضعه على البار منذ أن بدأ يأتي باستمرار، وأخبرهم أنه فأل حسن ويناسب تفاصيل المكان، قررت أن تعرض عليه صفقة، وطلبت أن يمنحها الصندوق بمقابل مبلغ، لكنه فاجأها بتقديمه هدية لها، وذهب مسرعاً إلى الداخل لإحضار كيس يضعه فيه.
 
فكرت بأن هذه المرة كانت كذبته خبيثة، كادت تؤذي مشاعرها، لكنه فتح عينيْها وقلبها على مشاعر حنين لحبيبها، كان النادل قد جهّز لها الصندوق في كيس ورقي جميل، دفعت الحساب، وتناولت معطفها، وخرجت تمشي بخطوات سريعة لتلحق بالحافلة، وفور صعودها إليها فتحت هاتفها، وكتبت رسالة نصية نفس العبارة المكتوبة على الصندوق، وأغلقت الهاتف وهي ترتجف، خلال ثوانٍ سمعتِ الهاتف يهتز، فتحته وجدت رداً: هل تناولت فطائر القرفة أو التوت؟
 


 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم