الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

صُور وعادات طرابلسيّة في رمضان: قمر "الزعبيّة"، وخيال الظلّ والأثر الشريف!

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
التكيّة المولويّة بالقرب من قلعة طرابلس. (عمر العمادي- إنستغرام))
التكيّة المولويّة بالقرب من قلعة طرابلس. (عمر العمادي- إنستغرام))
A+ A-

في أيامه الخوالي، يحضرُ رمضان في طرابلس مثل وافدٍ لطيف، فهو يبدّل عادات الطرابلسيين ويرسم يوميّاتهم بحيث يشكّل كلّ تفاصيلها، ويعيد تجذير المدينة في ثقافتها الإسلاميّة الّتي يبتهج لمرآتها الرمضانية المسلمون والمسيحيون.

ومع أفول الكثير من العادات والتّقاليد، نستعيد طقوساً ومشاهد ومظاهر ثقافة إسلامية في طرابلس اقترنت بإحياء شهر رمضان الّذي يتميّز عن مطلق الشهور الأخرى، فأهالي المدينة ينكبّون على إحياء هذا الشهر الفضيل، مدفوعين بإيمانهم بقول الرسول محمد "لو علمت أمتي ما في رمضان من خير لتمنّت أن يكون الدهر كله".

نقدّم 11 عادة رمضانيّة تميّزت بها طرابلس، وهي ملخّص عن سلسلة من 44 عادة أفرد لها الصحافيّ الرّاحل عبد القادر الأسمر كتاباً بعنوان "رمضان في طرابلس... ذكريات ومشاهد"، وقد استقى المعلومات التاريخيّة من كتابات للمؤرّخ الدكتور عمر عبد السلام تدمري الّذي قدّم بدوره للكتاب.

بدايةً، لا شكّ في أنّ رمضان يمثّل لشطر كبير من المسلمين الذين يجتهدون في إحيائه تجارة رابحة في العبادات والتقرب إلى الله. فاسم الشهر دالّ على مضمونه: "رمضان"، مشتق من رمض، أي الحرّ الشديد، في دلالة على الاعتقاد بأنّ حرارة الإيمان فيه من شأنها أن تحرق ذنوب المؤمنين، فيستقبلون عيد الفطر كيوم ولدتهم أمهاتهم!

مشاهد وعادات رمضانيّة في طرابلس

-تحرّي الهلال: تشكّل مراسم التماس هلال رمضان أحد أبرز المظاهر الأولى التي احتفلت بها طرابلس، تحقيقاً للحديث النبوي الشريف "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".

ومنذ أوائل القرن العشرين، كان يقام لتحرّي الهلال احتفال خاصّ بعد غروب التاسع والعشرين من شهر شعبان، فيتوافد مسؤولون دينيون إلى مقر والي طرابلس ثم إلى دارة مفتي المدينة، وينتظرون من يفيدهم من العلماء أو الشهود العدول بأنهم رأوا هلال رمضان.

وكان هناك نفر من العلماء يتطوّعون لالتماس الهلال من تلّة مشرفة بجوار القلعة تسمّى "الزعبية"، وبعضهم يحمل المناظير لأن المنطقة مكشوفة على البحر.

وما إن تثبت رؤية الهلال، حتى يتمّ إعلام مدفعجي القلعة ليطلق مدافعه السبعة، وعندها تُسمع الزغردات ومفرقعات الأطفال، ويتبادل الناس التهاني في الأسواق، وتخرج نوبات الطرق الصوفيّة تجوب أحياء وأزقة المدينة مهلّلة مكبّرة خلف المشاعل والفوانيس حتّى ساعة متأخرة من الليل.

وتسبق قدوم هذا الشهر مظاهر احتفالية أخرى، منها توزيع شراب الليموناضة التي كانت تُملأ بها بركة الملاحة أو بركة الصاغة مجاناً لكل العابرين.

 

- مدفع رمضان: إنّه المدفع الوحيد الّذي يطرب الطرابلسيون لدويّه، ويأنسون لسماعه. وعادة ما ينتظره الصغار بلهفة، فيقفون على الشرفات المطلة على قلعة طرابلس من القبّة وأبي سمراء، يراقبون "المدفعجي" في مهمّته.

ومدفع القلعة تقليد ابتكره المماليك، واتبعه العثمانيون، وظلّ يعمل بالبارود الذي يشعله "الطوبجي" بعد أن يتلقى إشارة من العلم المرفوع على مئذنة الجامع المنصوري الكبير أثناء أذان المغرب.

 

وقد أحيل المدفع البارودي الضخم إلى التقاعد منذ أكثر من نصف قرن، وركن على نافذة فوق مدخل القلعة.

ويتمّ إطلاق حوالي 200 قذيفة خلّبية خلال شهر رمضان وأيام العيد: خمسة مدافع يومياً، اثنان عند كلّ من الإفطار والإمساك وواحد عند إعلان بدء السحور، وسبعة مدافع في حال ثبوت هلالي رمضان وشوال ومدفعان أثناء صلوات العيد.

- المسحّر: هو الذي يتولى مهمّة إيقاظ النائمين لتناول طعام السحور امتثالاً للحديث النبوي الشريف "تسحّروا فإن في السحور بركة".

ويتولى المهمّة المتوارثة أحد عقلاء الحيّ، وممّن له معرفة وطيدة بسكان المنطقة التي يطوف فيها بطبلته مترنماً بما تيسّر من المدائح النبوية وبفضائل شهر الصّوم أو مقتطفات من السيرة النبويّة، والبعض يستعين بقصائد أحمد شوقي. ويتوقف المسحّر لحظات ينادي أصحاب الدار بأسمائهم مردفاً "قم يا (فلان) النايم وحّد الله".

وكانت مهمّة التسحير منوطة بعدة عائلات هي: البيروتي، الزاهد، اللوزي، القدوسي، غندور وغيرها.

- طبق "التّسقية": لا طبق ينافس فتّة الحمّص على مائدة الإفطار الطرابلسيّة، فيحضر كلّ يوم خلال رمضان.

ويقال إن الفتة أو "التسقية" مثلما يفضّل أن يسمّيها الطرابلسيون، هي أبرز علامات تأثّر مطبخ طرابلس بأصله الشامي، إذ يروى أن أول صحن تسقية صُنع بالزيت على يد الشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي، في حي الصالحية بدمشق. وفي التفاصيل أنّ أحد تلامذة الشيخ جاءه يشكي كساد الزيت عنده، فدعاه الشيخ مع باقي تلامذته للعشاء. سلق الحمص، ثم جاء بمسحوق كربونات الصوديوم وأذابه بالماء ثم سخنه وصبّ عليه زيتاً وحركه فانقلب الزيت مستحلباً، ثم فتّ الخبز وروّاه به ووضع الحمص المسلوق.

وهكذا ولدت أول تسقية، وكان شرط الزيت أن يكون معتّقاً. ومع مرور الوقت تطوّر الصّنف وأدخلت إليه المكونات الحيوانيّة من لبن وسمن، فوُلد صحن التسقية أو الفتة، نجمة السفرة الرمضانية في طرابلس.

 

ويرى الدكتور بلال عبد الهادي وريث مطعم "الدنون" الشهير في طرابلس وأستاذ الألسنيات، أنّ اللفظتين نشأتا كالآتي "فتّة، في أفواه البعض، وتسقية في أفواه البعض الآخر. والاسمان جميلان. الأول لا ينظر إلّا إلى الخبز الخفيّ في الطبق. فنحن نفتّ الخبز، ومن هنا وُلد الاسم الأوّل. والبعض ينظر إلى مياه الحمّص التي تسقي وتروي ظمأ الخبز المفتوت، ولهذا وُلد الاسم الثاني "تسقية". والمائدة الرمضانية التي تخلو من صحن الفتة، مائدة مبتورة المذاق".

وتُعدّ الفتة الفاتحة لطعام الإفطار، كالحساء والسوائل الساخنة. واللبن الساخن بفضل السمن المحمّى يسهل المضغ والبلع، ويمرّنان الحلقوم على التهام الأطباق الأساسية.

وتُزيّن التسقية في أيام الرخاء بالصنوبر الّذي اختفى عن الموائد، فضلاً عن الكاجو واللوز.

- أهازيج الأطفال: يطاول الانقلاب خلال الشهر ألعاب الأطفال و"اللغة الرمضانيّة" التي تعمّها، حيث يدأب الأطفال على التنافس حول عدد الأيام التي صاموها ومقدار ساعات صومهم دون أن يفطروا، ويتبارون في إظهار صحة صيامهم من خلال تفحص ألسنة بعضهم، ويحرصون على اقتناء ليمونة أو تفاحة مشكوكة بحبات القرنفل، يشمّونها من حين لآخر للدلالة على صومهم.

وحين يكتشف الأطفال أنّ أحدهم مفطر، يردّدون أهازيج تندّد به مثل "يا فاطر يا هم/  يا بزاق الدم/ دمك دم الخنزير/ يللي معلق بالجنزير"، أو مثل "يا فاطر رمضان/ يا مقلل دينو/ سكين اللحام/ تقطّع مصارينو".

- السكبة: توارث الطرابلسيون عن أجدادهم عادة "السكبة" في شهر رمضان. والسكبة توزيع جزء من الطعام أو معظمه على الجيران والأقارب والفقراء منهم خاصة، فنرى فتية الحيّ يحملون صحاف الطعام قبيل المغرب، يطوفون بها على عدد من أهالي الحيّ تقرّباً. وطبعاً، الصّحن لا يعود فارغاً في اليوم التالي. وهكذا تتزيّن موائد الإفطار في الحيّ الواحد بالمأكولات نفسها أحياناً، وتفعل هذه العادة الطيّبة فعلها في زيادة الألفة والتواصل.

- سهرات رمضان : كانت السهرات الرمضانية تسري في المقاهي الشعبية وتجسّد نوعاً من اللهو المباح، وخصوصاً بعد قضاء صلاة التراويح. وكان روّاد المقاهي يصغون لحكايات سيرة عنتر والزير سالم وفيروز شاه والمهلهل، وغيرهم من أبطال القَصص الشعبيّ، أو يتولّى الشيخ محمود الكراكيزي تقديم حواريّة "كراكوز وعيواظ" في لعبة خيال الظلّ التي نبغ فيها.

 

ولم تغب هذه السهرات حتّى اليوم في المقاهي الشعبية، وباتت مختلطة. وتنشط هذه السهرات حتى السحور في مقهى موسى في باب الرمل، ومقهى التل العليا ومقهى فهيم في التل، وقهوة سوق حراج. ويقصد باب الرمل شباب وأرباب عائلات من أنحاء طرابلس لشراء الكعك بالجبن من أفران باب الرمل التي تعمل على الحطب وتجد في رمضان موسم الرزق.

- زيارة الأثر الشريف: والأثر الشريف هو شعرة منسوبة إلى الرسول محمد، أهداها السلطان عبد الحميد الثاني إلى طرابلس في عام 1308 هـ (1889م)، حيث وُضعت في علبة من الذهب الخالص، وأرسلت مع أحد الباشوات في فرقاطة بحريّة خاصة. وعندما وصلت إلى ميناء طرابلس، هرع أهالي المدينة بكافة طوائفها لاستقبالها، وهي كانت مهداة إلى جامع الفاتحي الذي رمّمه السلطان عبد الحميد فسُمّي باسم الجامع الحميدي، لكن علماء المدينة قرّروا إثر نصيحة من الشيخ علي الميقاتي أن يوضع الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير لكونه أكبر مساجد طرابلس.

 

ومنذ ذلك الحين، يحرص الطرابلسيون على زيارة الأثر الشريف وتقبيله في موعد ثابت بعد صلاة الفجر وصلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وسط التكبير والتهليل وقرع طبول نوبات الطرق الصوفيّة.

- ختم القرآن الكريم: ينعقد خلال رمضان مجلس جماعي يومي لختم القرآن الكريم في غرفة الأثر الشريف في الجامع المنصوري، وذلك بإشراف شيخ قرّاء طرابلس. ويكتفي المتحلّقون بالإنصات إلى التلاوة الصحيحة، وربما طلبوا تلاوة بعض آيات توخياً لضبط ملفظها من كبار الحفظة في المجلس.

ويُذكر أنّ الشيخ محمد نصوح البارودي كان يتعمّد قراءة جزء كامل من القرآن الكريم في صلاة التراويح، ويختم تلاوته في اليوم الـ29 من رمضان، فيقام احتفال حافل في المدرسة القرطاوية التي كان إمامها.

 

ختم صحيح البخاري: يقام هذا الاحتفال بعد صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان في جامع طينال الأثري. هناك كان يتولى قراءة ختم صحيح البخاري الشيخ محمد أكرم الخطيب على سدة في صدر الجامع.

وحافظ هذا الشيخ على التقليد الخاص بطرابلس منذ أن عُهد إلى آل الخطيب بقراءته منذ 700 سنة بناءً على فرمان صادر عن المماليك كرّسته فرمانات أخرى صادرة عن الدولة العثمانية، فقد بدأ هذا التقليد في أوائل عهد المماليك بعد أن قال الإمام الحافظ الذهبي إنّ كتاب البخاري هو أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم.

- خياطة ملابس العيد: كانت أسواق طرابلس تعجّ بالمتسوقين منذ مطلع رمضان، لأن معظم الطرابلسيين كانوا يفضّلون خياطة الملابس بدلاً من شرائها جاهزة، فيَصلُ خيّاطو الجوخ والقمصان الليل بالنهار منذ منتصف رمضان لتلبية طلبات الزبائن، وكذلك الأمر بالنسبة لخيّاطات المنازل.

من هنا الازدحام الشديد في سوق البازركان لشراء القماش، وكذلك الأمر للتوصية على أحذية جديدة غير الجاهزة.

 

ويكشف الدكتور عمر عبد السلام تدمري من طفولته مشكلة دائمة مع قماش العيد، فيقول: "أما قماش "الطقم"، فكانت لي معه مشكلة، إذ كنّا نأخذه إلى خيّاط العائلة، ونأخذ الوعد بأن نتسلّمه طقماً جاهزاً ليلة العيد، ولكن تلك الوعود لم تصدق مرّة، لكثرة الزبائن، وعدم استعانة خيّاطنا بمساعدين، فكنت أتسلّم الطقم في اليوم الثاني من العيد، وفي آخر مرّة تسلّمته عبد انتهاء أيام العيد، ولا أخفي أنّني كنت أتميّز غيظاً!".

لأسباب معقّدة، تضاءل حضور هذه العادات في طرابلس كما في سائر مدن العالم الّتي تراجعت فيها الممارسات التقليديّة الّتي يحتكم جزء يسير منها للفطرة الإنسانيّة والبساطة. لكن لا شكّ في أنّ هذه الصّور لم تختفِ تماماً، ولا تزال طرابلس تختزن حتّى الساعة عبقاً من ذلك الماضي الرّمضاني في نفوس أهلها وخصوصاً أولئك الّذين شهدوا تلك المرحلة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فعاشوا سحر هذا الشهر المبارك الذي يقيم انقلاباً سلميّاً في النّفس والأسرة والمجتمع.

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم