الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حديقة إسلامية في كندا تثير حواراً فريداً بين الحداثة والأصالة (صور)

المصدر: "النهار"
حوار فريد بين الحداثة والأصالة.
حوار فريد بين الحداثة والأصالة.
A+ A-
محمد أدهم السيد

هل يمكن لحديقة غنّاء بكلّ مكوّناتها ومفرداتها المادّية والطبيعية، أن تخلق منصّة فريدة للتواصل والحوار بين الشرق والغرب؟ وأن ترسم لوحة فنّية جميلة تمتزج فيها الحداثة الغربية مع الأصالة الإسلامية في مجال عمارة المناظر الطبيعية، ضمن إطار خيالي غير نمطي في قلب القارّة الأميركية؟
 
هذا السؤال تحاول الإجابة عنه حديقة الآغا خان في جامعة ألبرتا، أدمنتون، في كندا. فهذه الحديقة التي تصل مساحتها إلى 4.8 هكتارات، وتعدّ واحدة من أكثر الحدائق الإسلامية شمولية، والأولى في نوعها أقصى الشمال الغربي من العالم، تتجاوز دورها الطبيعي مكاناً للراحة والاستجمام، لتتحوّل إلى معرض فني فريد يعكس جانباً من جوانب العمارة الإسلامية الكلاسيكية، ضمن إطار ساحر يمتزج بانسياب وتناغم مع العمارة الكندية المعاصرة في منطقة ألبرتا.
 
 
من خلال أجوائها الساحرة ومكوّناتها الطبيعية والفنية، تسعى الحديقة إلى أداء دور هامّ ومحوري في إيجاد فضاء اجتماعي جديد وهادئ يجمع بين الناس من جنسيات وأعراق وثقافات مختلفة، في بلد يعرف بتنوّعه وتعدّده الثقافي والاجتماعي، ويدعوهم للتواصل والحوار والتأمل والمشاركة والتفكير معاً في مستقبل الحضارة الإنسانية. كذلك تُعنى الحديقة بالاحتفاء بالعمارة الإسلامية الكلاسيكية من جهة، والعمارة الكندية المعاصرة من جهة أخرى، في أسلوب مشوّق يتجاوز الحدود ويلغي المسافات الهائلة التي تفصل بين هاتين الثقافتين المختلفتين تماماً.
 
أُنشئت هذه الحديقة، التي تحاكي في الكثير من جوانبها التراث المغولي، بفضل منحةٍ خاصّة قدّمها الأمير كريم آغا خان، رئيس ومؤسس "شبكة الآغا خان" للتنمية. ولهذه المنظمة (ومقرّها الرئيس في جنيف، سويسرا) دور كبير في الترويج للعمارة الإسلامية الكلاسيكية والمعاصرة، وهندسة المناظر الطبيعية والحدائق في العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص، مثل مشاريع الترميم التي تقوم بها في العالم وجائزتها الدولية للعمارة التي تعدّ من أقدم وأكبر وأهمّ الجوائز في مجال العمارة على الصعيد العالمي.
 
ولعلّ حديقة الأزهر الذائعة الصيت في القاهرة، التي كانت تستغلّ في السابق كمجمع للنفايات والقمامة لمدة تزيد عن 500 عام،‏ وتم تدشينها أوائل القرن الحالي بتكلفة إجمالية بلغت نحو 30 مليون دولار أميركي، هي أكثر الأمثلة اللافتة والمشاريع المذهلة، التي نفّذتها هذه المؤسسة ضمن إطار التطوير الحضري، وهندسة المناظر الطبيعية والحدائق في العالم العربي.
 


تصميم فريد يجمع بين الحداثة والأصالة

تعدّ حديقة الآغا خان في كندا بمثابة تجسيدٍ معاصر للعمارة الإسلامية التاريخية، ومساحة فريدة للتواصل والحوار وتعزيز مفهوم التعددية الثقافية في قلب القارّة الأميركية. وتجمع الحديقة بين الطراز الإسلامي التقليدي المستمدّ من عدد من أجمل نماذج العمارة الإسلامية في العالم التي تم تشكيلها بطريقة معاصرة لافتة للنظر، بما فيها تاج محلّ ومقبرة همايون في الهند، مع العمارة الكندية المعاصرة التي تتميّز بها على وجه الخصوص منطقة ألبرتا.
 
 
تعيد الحديقة الجديدة تصميم المناظر الطبيعية الغنيّة التي كانت تتميز بها الحدائق الإسلامية في الماضي ضمن سياق كندي معاصر. على سبيل المثال، تستلهم الحديقة بعضاً من عناصرها من البستان الفارسي، بالإضافة إلى التصميم الحدائقي التاريخي "جهار باغ" أو "الحديقة الرباعية"، التي ينظر إليها على أنها مظهر من مظاهر حدائق الفردوس في شكلها الأرضي. ويتكرر الأمر نفسه في عدد من المرافق الأخرى التي تنتشر في كافّة أرجاء الحديقة، كبرك المياه الساحرة، والترّاسات والممرات التي تصل بين جنبات الحديقة، والتي تعكس عدداً من التصاميم الإسلامية التاريخية.
 
وفيما تستمدّ الحديقة الإلهام من التاريخ المتجذّر والأراضي والحضارات الإسلامية البعيدة، تزخر من جانب آخر بالعناصر المعمارية والطبيعية الكندية المعاصرة. فمجموعة الورود التي تفترش الكثير من المساحات ضمن الحديقة، اختيرت من تراث الحدائق الإقليمي في كندا. أما النافورة الرئيسة فهي مستوحاة في تصميمها من زهرة ألبرتا الرسمية الشهيرة، وكذلك الأمر بشأن مجموعة الورود والنباتات والأشجار البرّية التي تعود جذورها وأصولها إلى البلد المضيف. ولتعزيز الأصول الكندية ضمن الحديقة، صُمّمت ونُفّذت العديد من الأعمال الحجرية بالعودة إلى طراز المنطقة المعماري المعاصر والكلاسيكي، الذي يعود إلى عدة قرون ماضية.
 
 
بالإضافة إلى النماذج المعمارية اللافتة، سُلّط الضوء على صفاء الطبيعة من خلال كلّ عنصر من عناصر التصميم، بما فيها طرق الغابات المنعزلة، والترّاسات المصنوعة من الغرانيت والحجر الجيري، والبرك الساكنة التي تنعكس على سطحها زرقة السماء الجميلة، والمروج الخضراء الطبيعية، فضلاً عن شلالٍ تنهمر مياهه برفق فوق كتل من الحجارة الناعمة المزخرفة. بينما تحيط بساتين الفاكهة والأشجار الخضراء المورقة ببحيرة كالا الضخمة، علماً أنّ الحديقة تحتوي على ما يزيد عن 25 ألفاً من الأشجار، والشجيرات، والنباتات المعمّرة، والنباتات السنوية ونباتات الأراضي الرطبة، التي اختيرت بدقة لتوفير الرائحة العطرة والجمال والقدرة على التحمّل ضمن مناخ ألبرتا القاسي.
 
 
المهندس المعماري توماس وولتز، من شركة هندسة المناظر الطبيعية العملاقة نيلسون بيرد وولتز، هو مَن صمّم حديقة الآغا خان بالتعاون مع صندوق الآغا خان للثقافة (إحدى وكالات شبكة الآغا خان للتنمية). ويقدّم المصمّم في تحفته الجديدة دون شك مثالاً مذهلاً لهندسة المناظر الطبيعية الإسلامية، التي تعكس رونق التاريخ وجمال الطبيعة بحدودها اللامتناهية، التي تبرز بوضوح من خلال الأشجار والنباتات، والضوء، والماء، والعمارة، والتكيّف، والإبداع البشري.
 
ضمن هذا الإطار، تقول الجهة المصمّمة في وصف العمل وصعوبته ودقّته: "للتأكد من أنّ التصاميم النهائية للحديقة تحترم مثيلاتها التاريخية، انخرطت نيلسون بيرد وولتز في دراسة معمّقة حول أنماط الحدائق الإسلامية التقليدية، من خلال ورش العمل والسفر وتدوين الملاحظات. وقد حصل هذا البحث مؤخراً على جائزة فا-أسلا الشرفية الهامّة في كندا".
 
 
ويضيف فريق العمل: "يستجيب التصميم للبيئات المحلّية من خلال التقاليد والأخلاقيات البيئية الإسلامية، ويضع نصب عينيه الشكل التقليدي للحديقة الإسلامية كإطار يمكن من خلاله قراءة التقلبات الموسمية الرائعة والشديدة، التي تشهدها خصوصية المناظر الطبيعية في ألبرتا". ويختم المصمم قائلاً: "يخلق التصميم مكاناً تتفاعل فيه المجتمعات المحلّية والعالمية مع حديقة تقرّبهم من الطبيعة، مع تعزيز التفاهم الثقافي في ما بينهم".
 
الجدير بالذكر أنّ حديقة الآغا خان قد حصلت العام الماضي على جائزة التميّز التي تقدّمها الجمعية الكندية لمهندسي المناظر الطبيعية (CSLA)، حيث اختيرت الحديقة من بين 13 مشروعاً فائزاً بهذه الجائزة الوطنية والهامّة عام 2020. ووفقاً للجهة المانحة، هذه المشاريع الحائزة جائزةً هي أمثلة بارزة على هندسة المناظر الطبيعية في كندا، حيث اختار الفائزين لجنةُ تحكيم وطنية لمهندسي المناظر الطبيعية من بين ما مجموعه 68 مشروعاً تُقدَّم للجائزة.
 

ملاذ للروح وفضاء للتعلّم والمشاركة

تمثّل حديقة الآغا خان فسحة جميلة للتأمل، ووجهة فريدة للسكان والسيّاح على حدّ سواء. ورغم الظروف الحالية والقاسية، التي يواجهها العالم في هذه الفترة الاستثنائية مع الانتشار المستمرّ لفيروس كورونا، وحالات الإغلاق المتكررة التي اضطرت الحكومات والدول إلى القيام بها للحدّ من سرعة انتشار هذا الفيروس القاتل، لم تفقد الحديقة رونقها وأهميتها كوجهة هامّة لسكان المدينة وزوّارها عندما تسمح الظروف بذلك. ومن المتوقع أن يتضاعف عدد الزوّار السنوي للحديقة، عند الانتهاء من هذه الجائحة، بفضل ما تقدّمه من إضافة إلى المدينة، ما سيعود بفائدةٍ اقتصادية على المنطقة بأكملها.
 
يقول مدير الحديقة لي فوت، في معرض تعليقه خلال افتتاح الحديقة قبل عدة أعوام: "صُمّمت حديقة الآغا خان لتوفّر المتعة لمئات السنوات وللعديد من الأجيال في المستقبل. وبصورةٍ مماثلة لما هو عليه الحال في أيّ حديقةٍ أخرى، سيكون من المذهل متابعة جميع النباتات والأشجار وهي تنمو مع مرور الوقت، فضلاً عن متابعة تطوّر تنظيم البرامج والتعليم للاستفادة من الإمكانات الكاملة لهذا المكان".
 
ضمن هذا الإطار، يؤكد القائمون على الحديقة أنّ عطلات نهاية الأسبوع كانت تشهد على الدوام تنظيم جولاتٍ سياحية في الحديقة الجديدة بقيادة مجموعةٍ من المرشدين المتطوّعين، بما يكفل تقديم المعلومات المرتبطة بالميزات المعمارية للمكان الجديد. كذلك كانت تُطبَّق وتُطوَّر برامج تفاعلية، بما فيها البرامج المرتبطة بالنباتات والبيئة، والفن، والتصميم، والموسيقى، والأصوات، والشعر، والنشاطات التي تُعنى بتعزيز التواصل بين الثقافات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يستمرّ العمل على استضافة مجموعة متنوّعة من النشاطات والفاعليات التعليمية، والمعارض، والعروض الفنية، والحفلات، وعروض الأفلام، والأحداث الثقافية ضمن مدرّجٍ خاصّ ومكشوف ملحق بالحديقة، عندما تسمح الظروف بذلك.
 
 
بالمحصّلة، تثبت حديقة الآغا خان أنّ الحدائق يمكن أن تؤدي دوراً هامّاً يفوق دورها الطبيعي كملاذ للروح والتأمّل والاستمتاع بهدوء وجمال الطبيعة، لتتحوّل إلى فضاء رحب للتواصل والمتعة والتأمل والتعليم، حيث يمكن أن يزدهر التفاهم الثقافي. وهذا ما يؤكده مدير الحديقة الذي يختم قائلاً: "إننا نشعر بالغبطة لمشاركة الناس ما تشهده الحديقة من تحوّل في هذه المرحلة. وأنا على ثقة بأنّ الزوّار سيذهلون بكلّ ما هو جديد وجميل هنا، ابتداءً من اللحظة التي سيمرّون فيها عبر بوابة الدخول، وصولاً إلى اللحظة التي يقع فيها بصرهم للوهلة الأولى على هذه الحديقة الاستثنائية".
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم