الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس

المصدر: "النهار"
سمير عطالله
سمير عطالله
Bookmark
ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس.
ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس.
A+ A-
رودريغز دي سيلفاترجمة: سمير عطااللهمنذ تقاعدي عن التدريس، قررت ألا أخرج من بلدتي ايستوريا دي ليبرداد، إلى أي مكان. اكتفيت من العالم، والآن سوف اغلق على نفسي ابواب هذه الجنّة من الشجر والصخور وطرق الاحراش والقطط الناعسة، ولن اذهب حتى الى باهيا، عاصمة القضاء، من اجل استلام راتبي التقاعدي. فقد اعطيتُ توكيلاً بذلك الى فرناندو، ساعي البريد، الذي يأتمنه الجميع على كل شيء، وخصوصاً الرجال الذين يتلقون رسائل عشق من عشيقاتهم في المدن القريبة. وبعض هؤلاء لا يجيدون القراءة، فيتولى فرناندو نقل مشاعر الهيام إليهم على هواه. وفي أي حال، فإن الرسائل كلها تنتهي بلازمة واحدة: ارجو أنك لم تنسَ رقم حسابي في مصرف سانتو اسبيرتو! ثمة سر لا يعرفه احد، سوى عشيقات لشبونة وماديرا ومدن الجنوب: تلك العلاقة بينهنَّ وبين الروح القدس. لماذا لا يثقن بشفيع محلي؟ ربما كان السبب قلّة الفروع في المصارف الصغيرة. مصرف الروح القدس، مثل شفيعه، في كل مكان.لا يهم. الخطايا البعيدة، تخفف من حجم عقدة الذنب، كما تقلل من احتمالات الفضيحة. وبحسب فرناندو، فمنذ ان بدأ العمل شاباً لم تحدث سوى فضيحة أو إثنتين. غالباً بسبب ضعف الذاكرة عند الزوج المخادع عندما يتأوه للأسم الخطأ في لحظة الحقيقة السامية.عدا ذلك، الحياة هادئة وساكنة في ايستوريا. تمر الفصول بطيئة ولا خلل في مواقيت الليل والنهار ومواعيد الغروب الارجواني واوراق الخريف الجافة التي تشبه اوقات التقاعد على الشرفة. اقصد جميع الشرفات. فما من احد لا يزال في الخدمة الفعلية هنا. الجميع في انتظار المعاش وبقية العمر. وكم يتشاءمون من عدّاد الأيام الذي تتولى الديكة شحنه كل فجر، ديكة مبتذلة، تنام واعناقها واقفة، مثل الادعياء الذين يتباهون بمنديل ملون في جيب سترتهم العليا.في اي حال، هكذا يبدو جميع الرجال صباح الأحد، عندما يرتدون جميعاً طقماً كحلياً لا يزالون يحتفظون به من ايام افريقيا، يوم كان بلدنا شريكاً في استعمار العالم والمتاجرة بثرواته. هكذا افقت على الدنيا. لقد عشت مع اهلي اكثر الوان الحياة فرحاً في لواندا. وما حسبنا ابداً أننا سوف نعود إلى هنا للبحث عن وطن وبيت واصدقاء. نشأت على ان افريقيا هي الوطن الأخير مهما كانت بشرتنا بيضاء. لكن ذات مساء، وأنا احتفل بعيدي الخامس عشر مع اصدقائي واساتذتي وعمي، الذي هو مدير الشرطة ايضاً، سمعنا ضجيجاً وضوضاء وجلبة في الخارج. وعندما فتح عمي الباب بفضوله الأمني، رأى مجموعة من الصبية والبنات يهتفون: عودوا الى دياركم ايها البرتغاليون. ايها البيض الملاعين.اغلق عمي الباب ونادى على امي في المطبخ: انسي قالب العيد يا سنيورا ماريا، ولنبدأ جميعاً باعداد حقائب الرحيل. ثم التفت الينا وهو يعتمر قبعته ويخرج قائلاً: كان لا بد ان يحدث هذا ايها الشبان، وقد حدث على حظكم. إذا تمعنتم من النافذة جيداً، سوف تتأكدون ان الأرض لا تكف عن الدوران. مجرد دورة أخرى.وسوف تعلن نهاية الامبراطورية البرتغالية من هنا بسبب النفط. اعدوا انفسكم لذلك اليوم.اعتقدنا ان عمي يردد بعض الفلسفات لكي يغطي مخاوفه مما يتنبأ به. تماماً مثل الذي يسعل بصوت عال لأنه يخشى الظلمة. لكن لم نلبث ان شعرنا بالخوف نحن ايضاً. فعمي فابيوس مثل جميع اهل القبعات العريضة، قليل الكلام، ويعرف جيداً كيف تكون مقدمات الاحداث. ثم ان له جيشاً من العيون في لواندا: السائقون وبائعات الموز والنساء الحانقات على خيانات ازواجهنَّ. الجميع يعملون لديه في مهنة الوشاية.منذ يوم ميلادي الخامس عشر، بدأ عمي يُعدّنا للحظة الحمراء. من موقعه كان يعرف الى ماذا سوف تتطور الأوضاع في لواندا، ويعرف من خبرته، كيف ينقلب البشر، في لحظة الى ذئاب جائعة. واللون ليس مهماً. فالأفريقيون خلف بشرتهم، مثلنا خلف بشرتنا. لكن ربما اكثر عصبية قليلاً واكثر ازدراء بالحياة. لذلك، يرقصون في الجنائز كما يرقصون في حفلات مساء السبت. يرقصون حتى تتفتت كل عروق اللذة في اجسادهم المنقوعة بالخمر الرخيص واليأس وكره الرجل الأبيض.وكنا نعرف ان هذا اليأس سوف يقرع جميع الأبواب البيضاء في انغولا. لكننا نحب حياتنا فيها. ومثل الأطفال نحاول اقناع انفسنا بأن معجزة قد تحدث ونصل الى اتفاق ما. غير ان فابيوس الذي امضى حياته في دائرة الشرطة، كان يرفض ان نستسلم لسذاجة...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم