في أواخر أيلول 2018 أطفأت دار الصياد مصابيحها وأقفلت أبوابها على وعد بالعودة إذا سمحت الظروف بذلك. لكن قرار أصحاب الدار بالاقفال تدريجياً عبر توقف الاصدارات وفي مقدمها جريدة الانوار، كان مجرد بروفة لطمأنة محبي الدار والقراء إلى أنها باقية، لكن الاسم وإرثه اختفى تدريجياً ومعها كل تراثها العريق في عالم الصحافة، وتحول دار الصياد إلى اسم لشارع بعدما توقفت نهائياً كل الاصدارات.
قبل أن تقرر الدار الاقفال، كانت مبيعات إصداراتها خصوصاً صحيفة الانوار الورقية قد تراجعت إلى بضع مئات قليلة، وانسحب الأمر على مجلة الصياد وأيضاً على المجلات الاخرى التي لم تعد قادرة على الاستمرار بعد غياب الإعلانات التي مولت مثلاً مجلة مثل الشبكة وغيرها. علماً أن الدار كانت قد توقفت عن اصدار مجلة الإداري الاقتصادية التابعة لها وايضاً "سمر" بسبب الخسائر المادية التي تتكبدها، وبسبب تراجع التمويل الخارجي العربي والخليجي الذي شكل منذ بداية التسعينات من القرن الماضي رافعة للمزيد من الاصدارات لدى الدار.
عندما اتخذ القرار بإقفال دار الصياد ومعها كل اصداراتها، كان تبقى من الكادر الوظيفي نحو 100، تشرف عليهم المديرة العامة الهام فريحة وشقيقها عصام الذي كان يتولى متابعة جريدة الانوار، فيما شقيقهما بسام يتولى الاتصالات الخارجية والعلاقات والتمويل من الخارج. وكانت تتوزع المهمات في ادارة النشر، من الشبكة التي عرفت مجداً في المجال الفني تردد صداه عربياً وخليجياً، وكانت تبيع عشرات آلاف النسخ أسبوعياً، والصياد المطبوعة الأسبوعية التي كانت باكورة الإصدارات وأيضاً مجلات فيروز وسمر والفارس والدفاع العربي والاداري.
لم تكن اصدارات دار الصياد خلال السنوات التي سبقت الاقفال في أحسن أحوالها، حتى أن قرار الإقفال جاء خجولاً ولا يجيب عن الأزمة الحقيقية التي أدت اليها، في وقت كان واضحاً أن لا خطط بديلة للاستمرار بل لطوي الصفحة التي اعتبرت مشرقة من تاريخ الصحافة في لبنان. صحيفة الانوار كانت تحولت في سنواتها الاخيرة إلى مجرد صفحات تنقل أخباراً متداولة وتراجع وضعها بين الصحف اللبنانية، علماً أنها كانت رقماً صعباً في قيادة المؤسس الأب سعيد فريحة منذ تأسيسها في 1959، وهو الذي ساهم في في نهوض الصحافة اللبنانية والعربية، منذ أن أطلق مجلة "الصياد" في عام 1943 مواكباً الاستقلال والصراع في المنطقة.
تهاوى الصرح الاعلامي الكبير بكل مكوناته، حتى قبل قرار الاقفال في 2018، وبات اليوم مجرد اسم قديم لتاريخ من العمل الصحافي ترك بصماته على أجيال عديدة متعاقبة. المبنى الاساسي الذي انطلقت منه الصياد حول مستديرتها كان عُهد به لأحد المصارف قبل أكثر من عشرين سنة، حيث انتقلت مؤسسة دار الصياد وأعمال آل فريحة إلى مبنى ملاصق له في الشارع. ومنذ ذلك الوقت بدأت الحقبة الناصعة بالانتهاء تدريجياً إلى موت محتوم لهذا الصرح الصحافي العريق. والحقيقة أنه لم يكن أحد يتوقع أن تقفل الدار وتطفئ مصابيحها بهذه الطريقة التي تتنكر لتاريخها، وفي غياب أي خطط أقله لبقاء الاسم. وإذا كان السبب المعلن هو الازمة المالية والخسائر التي تكبدتها المؤسسة لسنوات عديدة، إلا أن للأمر اسباب واعتبارات عدة التقت كلها على الإقفال ورفض الخوض في تجارب جديدة أو تحمل المسؤولية في الاستمرار. ويتذكر احد الذين واكبوا دار الصياد وكانت لهم مساهمات كبيرة في إعلاء شأنها صحافياً أن خسائر إصدارات الدار محلياً كانت كبيرة، لكن الرصيد المالي من الدعم الخارجي كان أيضاً كبيراً، ولذلك كانت تتم تغطية التكاليف من الرصيد الخارجي ومن الأبناء. ويعني ذلك أن السبب ليس شح المال عند مؤسسة آل فريحة بل له اسباب أخرى تتعلق بوضع العائلة نفسها. هذا الواقع عكسته الهام فريحة في كلامها عن الاقفال حينذاك، "السبب وراء اتخاذ القرار الموجع هو أن الحمل بات ثقيلاً، وليس بين الجيل الجديد في العائلة مَن بمقدوره مواصلة العمل في هذه المهنة. أي أن الاستمرار كان مرتبطاً بمن يحمل الشعلة من الأبناء، وهم جميعاً يديرون أعمالاً في الخارج ليس لها علاقة بالصحافة.
في أواخر أيلول وبداية تشرين الاول 2018 انتهى مشوار دار الصياد العريقة. وضع الأخوة الثلاثة حداً لهذه المسيرة التي قادها سعيد فريحة حتى تاريخ وفاته عام 1978. انصرفوا إلى أعمال أخرى، باستثناء مقالات متفرقة تكتبها الهام فريحة على صفحتها. يقول من واكب تاريخ الدار وعمل بها لسنوات طويلة أن خيار الإقفال كان حتمياً حتى لو توافرت الدعم من خارج الحسابات الخاصة لآل فريحة. المشكلة أن المؤسسة خلال العقدين الاخيرين كانت تتمحور حول العائلة حصراً، ولم يكن ممكناً الاستمرار في وقت فقدت الاصدارات الكثير من رصيدها بين القراء، وإذا كانت استمرت على ما هي عليه كانت الامور ستتجه نحو الفوضى. لكن ما هو أكيد أنه جرى التفريط بإرث صحافي عريق وتطوير عمله بمواكبة التكنولوجيا والحداثة لو توافرت الإرادة لذلك.
عاشت دار الصياد لحظات مجد في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي مع عدد من المجلات المتخصصة، وغطت الاعلانات كل صفحات المطبوعات، وضمت مئات الصحافيين والعاملين، لكن مسار التراجع بدأ تدريجياً بعد العام 2000 حين لم تستطع المؤسسة إعادة الهيكلة وتفاقمت الأزمة بعد الحرب السورية. ولم تشفع محاولات الترويج عربياً وخليجياً للنهوض مجدداً خصوصاً بسبب العجز عن تحويل الدار إلى مؤسسة مع شركاء، فضلاً عن عدم القدرة على الدخول في عالم الأونلاين والتحول الرقمي. بقيت الدار ضمن الإرث العائلي وأنهت مع الاقفال تاريخاً مجيداً في عالم الصحافة كانت له ظروفه وحيثياته في البلد كله.
أريع سنوات مرت على إقفال دار الصياد. لم يعد في البلد من يتذكر ذلك التاريخ في الصحافة. غابت الانوار التي تأسست عام 1959، وفقدت "الشبكة" وظيفتها حين شغلت القراء منذ 1956 وغابت مع الإقفال. وانتهت 75 سنة من اصدارات مؤسسة عائلية لم تستطع أن تصمد برصيد قديم لا يمكن اسقاطه على الحاضر.
[email protected]
Twitter: @ihaidar62