لن يمر هذا الشهر المقدس على بلدة معلولا كما جرت العادة في كل سنة. ففي الذاكرة المسيحية، هذا الشهر هو شهر معلولا بـ"امتياز"، فالأعياد تجتاح تلك البلدة السورية الاستثنائية الواقعة في قلب جبال القلمون. من 14 أيلول حتى أوائل شهر تشرين الأول، تعتبر هذه الفترة بالنسبة للمسيحيين في العالم وخصوصاً في معلولا من أهم الفترات المقدسة واللاهوتية.
مهرجانات الفرح تحوّلت الى مهرجانات حزن وقلق. فقد جرت العادة ان تبدأ هذه الاحتفالات في عيد الصليب الذي يصادف في 14 أيلول. احتفالات وصلوات تعم البلدة، اهالي القرية وزوارها يستمتعون بالتقاليد التي تقام في هذه المناسبة، من الصلوات التي ترفع الى التقاليد السنوية.
فمن التقاليد المعروفة في هذه المناسبة "المعلولية"، اشعال النيران على قمم الجبال، ويشرح الأب جورج برباري، كاهن رعية كنيسة السيدة عين جديد – جبل لبنان لـ"النهار" أن "أهالي القرية يقيمون هذا التقليد منذ أيام الملك قسطنطين، فعند اكتشاف الصليب في أوراشليم أشعلوا النيران كي يعلموا الملك قسطنطين بذلك، لذلك فهذا التقليد مستمر في الاحتفالات التي تقام في معلولا خلال عيد الصليب".
اضافة الى عيد الصليب، يحتفل مسيحيو العالم في 24 أيلول بعيد القديسة تقلا. ووفق الأب برباري فان القديسة تقلا تعتبر أولى الشهيدات، وسُميّ الدير الذي بني في القرن السابع باسمها في معلولا، وهو من أكبر الأديرة الموجودة في البلدة. هذه الفترة المميزة، لا تنتهي في عيد القديسة تقلا، اذ تحتفل البلدة أيضاً بعيد القديسين سركيس وباخوس والذي يصادف ذكرهما في 6 تشرين الأول، وقد سميت كنيسة على اسميهما في معلولا.
تحتفل هذه البلدة الصغيرة في هذا الشهر المبارك بثلاثة أعياد مهمة ورمزية. أما اليوم فقد تحوّلت الاحتفالات والمهرجانات والفرح والحب الى حزن وأسى بعد الاشتباكات والتهديدات التي طالت البلدة وهجرت غالبية سكانها، دون اي احترام لرمزيتها ومقدساتها ومعالمها التاريخية. يقول الأب برباري: "للأسف، تحوّلت مهرجانات الفرح الى مهرجانات حزن وتحسر على هذه المعالم الدينية المسيحية في سوريا".
يشدد برباري على المغزى العميق لكون مسيحيو معلولا لا يزالون حتى اليوم يتكلمون لغة المسيح الآرامية، "هذه اللغة اضمحلت حتى ان الانجيل كتب باللغة اليونانية الا انه تم الحفاظ على بعض التعابير المكتوبة بالانجيل في هذه اللغة النادرة". ويضيف: "هذه اللغة اضمحلت لصالح اللغات السريانية والعبرية والعربية... ولم تستطع اللغات الجديدة ان تخترق معلولا الموجودة في جبال القلمون". ويوضح ان "الآرامية أثارت اهتماماً كبيراً لدى اللغويين العالميين، فقد عمد بعض اللغويين الألمان على دراسة هذه اللغة، لجعلها لغة مكتوبة".
ويشرح أن كلمة "معلولا" هي كلمة باللغة الآرمية، تعني المدخل الضيّق. ويقول أن الاسم يعود الى وجود الفج الذي يقسم معلولا الى قسمين، مشيراً الى "أن معلولا الموجودة في جبال القلمون، تحيط بها مجموعة من القرى حيث يعيش مسلمون، أما دير القديسة تقلا فموجود في أسفل الفج وفي آخر هذا الممر، دير القديسين سركيس وباخوس". ويعتبر أن "هذا الفج الموجود في وسط المنطقة رمز يعبر عن التواصل بين مختلف الطوائف في سوريا.. اذ انه يشكل صلة وصل بين دير القديسة تقلا الأورثوذوكسي الموجود منذ حوالي القرن السابع، ودير ما سركيس وباخوس الكاثوليكي الذي بني على أنقاض هيكل وثني"، كما يمثل هذا الفج "جسر تواصل وملاقاة بين الديرين الأورثوذكسي والكاثوليكي كما يجمعهما بالأخوة المسلمين...هذا الفج رمز التعايش بين جميع الطوائف في سوريا".
وتقول الرواية أن "والدي القديسة تقلا الوثنيين، والتي كانت معاصرة للقديس بولس الرسول، حاولا أن يقتلاها، الا أنها حوصرت بالجبال، واذ بالجبل انشق قسمين فاختبأت من مضطهديها. عاشت القديسة تقلا بسلام تشهد للمسيح في منطقة معلولا وتوفيت ودفنت هناك وفي القرن السابع بني الدير وسمي باسمها".
في موازاة ذلك، تتميز معلولا بطبيعة جميلة وبالمغاور الطبيعية المحفورة في الجبال، ويشير الأب جورج الى أن "العديد من النساك في تاريخ المسيحية كانوا يلجأون الى هذه المغاور، فمن هذه المناسك نشأت العديد من الأديار والكنائس، مثل كنيستي مار الياس والقديس جورجيوس".
ويؤكد الأب برباري أن "الصلوات ترفع على نية المسيحيين في معولا وخارجها وعلى نية جميع الناس المظلومين والمنكوبين من جميع الأديان"، آملاً أن تؤدي "الصلوات والمفاوضات التي تجرى على جميع المستويات الى كف يد الشر عن الناس الأبرياء".
معلولا رمز المسيحية، أصبحت محاصرة، ولن يتمكن أهلها من الاحتفال بأعيادها كما درجت العادة. كثير من الأهالي نزحوا الى الشام، وهم يفضلون الصمت، لألف سبب وسبب. رئيس احدى الجمعيات الدينية، والذي يعمل على ايواء اهالي معلولا النازحين، تحدث الى "النهار" التي كانت قد طلبت منه المساعدة للتواصل مع عائلات من معلولا. الرجل قال لـ"النهار": "لدى مراجعتي للعديد من المنكوبين "المعلوليين" في الشام رفضوا ادراج قصصهم خوفاً من تداعيات سلبية ولما يمكن ان تحمله لهم الأيام من غدر الغادرين، علماً أن الجميع خرجوا تحت الرصاص الى عين التينة ومنها الى دمشق، وتحت خطر القنص على اوتوستراد حرستا، وبعدما كانت بيوتهم مفتوحة لكل الضيوف عموماً وخصوصاً في مثل ليلة عيد الصليب باتوا اليوم ضيوف البطريركيات والكنائس بدمشق وتُقدم لهم المساعدات ".
وتبقى الصلوات مرفوعة لتظل معلولا ممراً آمناً ينقل سوريا من الحرب الى السلم، تيمناً بحماية الله للقديسة تقلا عبر هذا الممر من شر مضطهديها.

[[video source=youtube id=4lOgM7H-lqo]]