الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

باريس تحت "الشماسي"

المصدر: "النهار"
كاتيا الطويل- باريس
باريس تحت "الشماسي"
باريس تحت "الشماسي"
A+ A-

يقولون لكِ إنّ الصيف مقبل. يَعِدونكِ بأنّه سيأتي في شهر أيّار. تنتظرين.  

لكنّ صيف باريس لا يأتي. يتأخّر. يماطل. يتدلّل. يتباطأ. فتنتظرين.

تنتظرين مقوّسة الظهر جاحظة العينين. أنتِ مجبرة على تقويس ظهركِ و"تفتيح عينيكِ". لماذا؟ لأنّ باريس في أيّار مدينة خطرة قد تسلبكِ عينًا أو تصيبكِ بشطب في الوجه. باريس في أيّار تصبح مدينة الشماسي.

مطر مُنهمر بصمت. بهدوء. بعفويّة.

باريس المدينة الصاخبة الوقحة القاتلة تصبح مع الشتاء امرأة هادئة حييّة. تصبح سماءً تلتقط أنفاسها في انتظار ردّ فعلكِ.

لم ترَي باريس يومًا على هذا القدر من السكوت. أنتِ المعتادة أمطار بيروت الجارفة. أنتِ المعتادة الرعد والبرق والغضب النازل من السماء تفاجئين برقّة أمطار باريس.

باريس في شهر أيّار زاخرة بالشماسي. حمراء. زرقاء. خضراء. شماسٍ أينما نظرتِ. على الأرصفة. على الطرق. في الأزقّة الضيّقة. تلك الثمينة المتينة، وتلك التي يكسرها الهواء ويتلاعب بقضبانها المهتزّة. تحاولين تحاشيها. الهرب من أمامها. قد تنجحين. قد تفشلين. إنّما لا يمكنكِ الاستسلام.

للشمسيّة حكايتها مع باريس. فمن بعد شمسيّة الأمبراطور الصينيّ وانغ مانغ التي فكّر فيها في القرن الأوّل بعد الميلاد، جاء الباريسيّ جان ماريوس في العام 1705 وابتدع الشمسيّة بشكلها المتعارف عليه اليوم. فلا تُفاجئكِ هذه المعلومة. تبتسمين، أنتِ التي صرتِ ترين في باريس مهد الكون. لقد شهدت باريس ولادة الشمسيّة الأولى. شهدت ولادتها وعملت على جعلها رمز الطبقة المخمليّة من المجتمع لقرون خلت.

تتذكّرين الشماسي الدقيقة الصنع. شماسي الدانتيلاّ التي كانت في زمن غابر رمز الأريستوقراطيّة والرفعة. كانت الشمسيّة قطعة أساسيّة من زيّ المرأة. قطعة راقية منمّقة تدلّ على مكانة صاحبتها التي ما كانت تخلعها من يدها. كانت الشمسيّة "أكسسوارًا" فاخرًا تهتمّ ببهائه المرأة اهتمامها بحمرة شفتيها وبثوبها. تتذكّرين الشماسي في الروايات الفرنسيّة. في اللوحات. في الأفلام. شماسٍ أنيقة. مغرورة. تتذكّريها وتفكّرين في حالكِ الآن. لقد تحوّلت الشمسيّة الآن إلى عدوّ جديد جنّدته باريس لتبقيكِ على أهبة الاستعداد دائمًا أبدًا.

تكونين عائدًة إلى بيتك بهدوء وشرود، وإذ بباريس تفاجئكِ بمطرها الصامت المنسلّ. كأنّه فخّ. امتحان. تركضين محاولِةً تحاشي الشمسيّات التي فتحها أصحابها بسرعة فائقة. كأنّهم كانوا جميعهم على اتّفاق. وكأنّ باريس وأهلها على موعد. هي أرسلت نقاطها الصامتة وهم فتحوا شماسيهم. تركضين لتختبئي تحت مدخل مطعم صغير. "بيسترو" أرسلته إليكِ الأقدار ليمنحكِ شيئًا من الوقت في انتظار انتهاء المطر. تنتظرين لثوانٍ على أمل أن يتوقّف المطر فإذ بصوت ينهركِ من الداخل. صوت بارد قاسٍ مبحوح يأمركِ بالابتعاد عن مدخل المطعم. تفاجئين بالصوت الذي يأتيكِ على حين غفلة. تحاولين أن تشرحي موقفكِ. تفسّرين أنّكِ مختبئة من المطر. تحاولين أن تؤكّدي أنّك لن تطيلي المكوث. فيعود الصوت أكثر حدّة. تزداد بحّته عمقًا وجلافة. 

تخسرين عنادك وتخرجين إلى مطر باريس. تسلّمين وتركضين تحت المطر. لكنّكِ فجأة تبطئين. تتمهّلين لتلتقطي أنفاسك. تقرّرين أنّك لن تهربي من باريس ومطرها. تقرّرين أنّك لن تشتري شمسيّة ولن تختبئي تحت مدخل بيسترو مبحوح. تقرّرين أنّك ستسيرين تحت مطر باريس. ستعانقينه. ستعانقينها. ستتركنها تطهّركِ. تعمّدكِ.

حمراء. زرقاء. خضراء. شماسٍ أينما نظرت. باريس تستعدّ لصيفها. باريس تأخذ وقتها وأنت تنتظرين. ماذا عساك تفعلين سوى الانتظار؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم