الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

"قهوة التلّ العليا" في طرابلس... هنا يختبئون من الأيام... ما بين "دقّ ورق" ونَفَس أصفهاني...

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
"قهوة التلّ العليا" في طرابلس... هنا يختبئون من الأيام... ما بين "دقّ ورق" ونَفَس أصفهاني...
"قهوة التلّ العليا" في طرابلس... هنا يختبئون من الأيام... ما بين "دقّ ورق" ونَفَس أصفهاني...
A+ A-

كَتَبوا "قَصائِد أحلامهم" الأولى، هُنا، في هذه الفُسحة التي تَتلحَّف سماء طرابلس، "أم الفقير". عاشوا لَحظات انكسارهم العابِرة و"يالّلي ما عادت تِنذَكَر"، بين الأشجار، عَشرات الأشجار المؤتَمَنة على الأسرار التي ما زال طيفها "الزاهي" يُزيِّن المكان، "من هيديك الإيام". 

و"عَريشة العِنَب" التي كانت تُلقي بظلالها على عُشّاق الأحلام المُستَحيلة، ما زالت "مطوّلة بالها" ومُصرّة على مُعانَقة الحاضِر، و"هالّلحظة بالذات".

هُنا، عاشوا تنهّدات الحُب الأولى، كما هَرَبوا من بعض ذكريات، وارتَدوا وِشاح الذكريات التي لم تُكتَب بَعد.

وعندما رَحَلت أيام الصبا، أصرّوا بدورهم على البقاء هُنا حيث إيقاع الحياة أبطأ من العالم الخارجي.

سنوات طويلة مرَّت على الزيارات الأولى... والقصائِد الأولى بِسطورها المؤثّرة ببساطَتها. ومع ذلك ما زالوا يَجتَمِعون هُنا، في هذه الفُسحة الشاهِدة على ثوراتِهم ونوبات غَضَبهم... وساعات التَخطيط الطويلة لاعتِصام أو آخر عبّروا من خلاله عن رأيهم واعتراضِهم، وعن "كل شي زاعجن"، لأهل "البَلَد" (الطرابلسيّ يُطلِق على مَدينته اسم البَلَد).



قهوة التلّ العُليا!

"مين ما سألت"، يَعرِف المكان جيداً.

"هون فُسحة الأمان"، "هنا المَساحة الخَضراء الوحيدة المُتبقيّة"، "هنا تاريخنا"، "هون الملاذ وراحة البال".

وجود المَقهى على تلّ مُرتَفِع أكسَبَهُ تَسميته. فهو يُشرِف على طرابلس وعلى ساحة التلّ تحديداً. نَصِل إليه من مَداخل عدّة في البَلَد. هذا الصَباح نَقصِده من هذا المَدخَل، حيث الأدراج الطويلة التي توزّعت على جهتيها المحال التجاريّة.



الكُل يَنتَظِر "رِزقة اليوم".

البعض يُراقِب "الرايح والجايي".

والبعض الآخر "سهيان"، لا ينتَظر أي شيء.

أصوات البائعين القادِمة من ساحَة التلّ تَنصَهِر بزمامير السيّارات.

كل بائع مُقتَنِع بأن المُنتجات والمأكولات التي يَعرضها على عَرَبته "ما في قَبلها ولا بَعدها"!


ولكن روّاد المَقهى "ما مِنتبهين عَ شي".

يَعيشون طُقوسهم الصَغيرة في المكان الذي لم تتمكَّن الأيام من أن تَسلبهُ شعبيّته مع "الكبير والصغير".

يَليقُ بهذا المَكان أن نَنسى "على شَرَفِهِ" مَشاغِل الأيام.

المسَافة بين "قهوة التلّ العليا" وبين صَخب المَدينة الغارِقة في قصصها، لا تُذكَر.

"يَعني كم دقيقة ع الكتير"!

 ومع ذلك، لا شيء يُشبِه هذا المَكان المُقسّم أجزاء عدّة: واحد للعائلات وآخر للرجال، وفي هذه الزاوية تَجِد "الستّات" مَربَض خيلهن! وهنا يتناوِل الجائع "لِقمة طرابلسيّة مَعمولة ع الأصول"! وللأولاد فُسحتهم المُزيّنة بالألعاب. هم مَدعوون لنَسج حكاياتهم، ولكتابَة قصاِئدهم الأولى.


عام 1940 كان المَكان حكراً على الرجال.

اليوم، هو للجَميع.

لكل زائِر زاويته التي يُسيّجها بمَزاج اللحظة.

اللحظة الهارِبة التي سَتتحوَّل ذكرى.


"الكازوزة البيضاء"، كانت ماضياً من "المَشهيّات" الأساسيّة في المَقهى، كذلك الأمر مع "الزهورات".

 أمّا النَرجيلة، فكانت ولم تَزَل "حَديث الساعة" في كل ساعة في "قَهوة التلّ".

الشباب يَميلون إلى "المعسّل"، ولكن الأكبَر سنّاً "يُمزمزون" النَرجيلة المَصنوعة بالتَنبَك الأصلي، "يَعني ما في غنى عن الأصفَهاني".

أمس الذي عَبَر، كان التلاميذ من كل الأعمار، "يَختَبئون" في هذه الغُرفة المُسيّجة بطيف الأحلام "الفتيّة". وكانوا يَدرسون لامتحاناتهم الصَعبة فيها، على اعتبار أن هنا، "ما في زمامير ولا ضجّة".

وبين الحين والآخر، كانوا يَتبادَلون الأحاديث الجانبيّة... و"عرفت شو قلّلها عبّودة للمعلّمة"؟!

 اليوم، تحوّلت الغُرفة إلى مصلى.


في هذه الزاوية، استَقبَل المَقهى أول سينما صيفيّة في الهواء الطَلِق. وكانت البداية مع الأفلام الصامِتة... إلى أن تقدّمت المَرحَلة لتَصِل إلى أفلام النجوم الكِبار، و"يا هلا" بليلى مراد واسماعيل ياسين وفريد الأطرش. وكانت للأفلام الهنديّة أيضاً "لَحظة عزّها"... "هون كانت الستّات تبكي وتنوح كل ما تَرَك البَطل الغامِض والشَرس والمَهيوب، بَطَلته الهائمة في حبه والتي تُتقِن تأدية دور الضحيّة المَظلومة"!

محمود سعدالله عابدين، المَعروف في المَقهى باسم "أبو سعد"، وَرث المكان عن والده.


استَلم إدارة المَقهى مع شقيقه عام 1975، بعدما كان ملكاً لوالده من عام 1939. ومنذ تسلّمه إدارة المكان أصرَّ على الحفاظ على وجهه الشعبيّ. يَعتَبر طفولته في "قهوة التلّ" جوهر حياته. في القرن الـ19، كانت المنطقة المُحيطة بالمقهى ملعباً للخيل وكان أهل "البَلَد" يرتادونه باستمرار.

عُمر المَقهى، "من عمر طرابلس"، كما يؤكّد هذا المُسنّ ضاحِكاً. يُعلِّق آخر، "تعمّرت القهوة عام 1870، أيام الدولة العثمانيّة".

تحوّلت الفُسحة إلى مقهى "بالغَلَط"، بعدما كان الهَدَف منها أن تكون بلديّة. وأثر مُشكل "اندَلَعَ" ذات يوم بين المسؤولين، صارت فِكرة الصرح البلدي مُستحيلة، ووُلِدَ "قهوة التل العليا".

 المهندس عبدالله المصري يرتاد المَقهى منذ 50 عاماً. هذا الصباح يَلعَب "الّليخة" مع محمد الزعبي ومصطفى العلي ومصطفى شطح.

يجتمعون هنا منذ أيام المدرسة.


بالنسبة إليهم، "القهوة هي مُجتمع طرابلس المصغَّر. هي قَرية في وسط المَدينة. ما في حدا إلا ما مَرَق هون. القهوة تستَقبل كل الطبقات الاجتماعيّة والثقافيّة والأحزاب ورجالات الدين. هنا تَجتَمع كل الطوائف".

"الشباب" يَلعَبون الوَرَق لساعات طويلة.

بعضهم يَميل إلى لعبة "الدومينو". البعض الآخر يقرأ. النساء يَأخذن إستراحة من المسؤوليّات و"شغل البيت" في قهوة التلّ العليا. "دَردَشة" وتبادُل أفكار وسط النهار، و"شويّة ضحك"، قبل الانتقال إلى الواقِع ومُتطلّباته.

"لاحقين نِرجع على الغَسيل والطبخ".


غازي المير يَقصَد المكان منذ 65 سنة، "عندما أغيب لسبب أو لآخر أشعر بأن شيئاً ما غير طبيعيّ في نهاري. أبقى هنا يوميّاً ما يُقارِب الـ5 ساعات".

طرابلس تَعيش يوميّاتها الزاهية على بُعد خُطوات قليلة من مقهى التلّ العليا، ولكن روّاد المكان يَعيشون لَحظاتِهم الهارِبة فيها وكأن لا شيء أبعَد من "دقّ الّليخة" أو "لعبة الطاولة" و"نَفَس النَرجيلة".

وبطَبيعة الحال، يَميل الشَباب إلى "المعسّل" ومن هم أكبر سنّاً إلى "الأصفهاني".

ولكن كلاهما يُدرِكُ تماماً بأن هذه الّلحظات هارِبة.

 ولكن لِسَبَب أو لآخر، هم على يَقين من أنها ستَبقى بطَريقة أو بأخرى... إذ إن هذا المَكان يَملك قُدرة خفيّة على الاحتفاظ بالذكريّات وكأن التاريخ ائتَمَنه عليها.

[email protected]
 


 




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم