تستعيد "دار المدى" رواية الكاتب النروجي كنوت هامسون، "فكتوريا"، الحائزة نوبل للآداب، وتقدّمها بالعربية ترجمة المغربي خالد أقلعي. تناقضات النفوس المضطربة، والأمنيات حين تُقهر، في رواية تبدأ بالطبيعة وتنتهي بالرحيل.
يخشى القارئ أعداداً من الروايات تصيّر الحب مشاعر مضمخة بالفرح حيناً وباليأس حيناً آخر. يخشى تسطيح الثيمات الكبرى، الحب إحداها، والمال والموسيقى أيضاً. كنوت هامسون (1859- 1952)، وبينما يكتب الحب في رواية "فكتوريا"، يروح يشرّح شخصاً مصنوعاً من التضاد، من التشرّد والبؤس والتراكمات. هامسون يكتب نفسه. "فكتوريا" امرأة يتستّر بها كي لا يُفتضح.
الطبيعة رواية العصافير والأنهر وأشجار المشمش ونقّار الخشب، تُقرأ بالتأمل. يخال القارئ ان ابن الطحان، يوحنا، الشاب الفقير الذي يبدو في الرواية بمثابة مراحل الأجيال وهي تتحوّل، مجرد مادة تحتاج الى العطف ليقتفي أثرها. لكن الكاتب يصوغها بحذر. شخصية غير عادية تشبهه بالتمرّد على الحضيض والجرأة على رفض الواقع. يخلق الكاتب خلق يوحنا من لحمه. نراه يتمخّضه. رجلٌ ينجب رجلاً في صفحات تئن من فرط الوجع.
نتساءل، أين فكتوريا في بداية تتعمّد المغالطات كي نكف عن الاعتقاد بأن السائد هو الأمر الوحيد القابل للدحض في هذه العالم؟ أحبّ يوحنا فكتوريا مذ كان صغيراً يطارد الأوهام في الغابة، ويعمّر لها كوخاً من الأوراق اليابسة. الرواية تقدّم الحب مزيجاً من المراحل العمرية بينما تتشظّى تحت وطأة الاستحالة. الأكثر مستحيلاً هو الأدب. حبّ فكتوريا يجعل الحاجة إلى الكتابة تدبّ في كينونة ابن الطحان. حاجة وجودية لا ترتبط بالزمن. يصبح بعدها كاتباً مشهوراً، لكن ليس سعيداً. يوحنا وهامسون مجبولان بالخيبة.
المرأة التي حملت عنه اسم الرواية، لا تتركه ينعم بالسلام. فكتوريا، كفتيات ذاك العصر الاريستوقراطيات، لا تجرؤ على التمرّد. تحب يوحنا وترتبط بآخر لأن الأب يريد لابنته الملازم الأول في الجيش، لا ابن طحان يمارس مهنة البؤساء: الكتابة. يضفي ضعف فكتوريا على الرواية تبدّلاً قاهراً. يصنع اختلافها في كل مرة تُكتب قصائد الحب ثم تتمزّق.
يمسي التبدّل مصير الرواية. حتمية استمرارها بعد 150 عاماً على رحيل كاتبها. تطفو المراحل العمرية على وجه الماء. الحياة تتبدّل ونظريات الثبات تستعر في الجحيم الملتهبة: "لم أعد أميّز شيئاً هنا. حتى الغابة تبدّلت: اجتثوا منها أشجاراً كثيرة"، يقول يوحنا مندهشاً أمام سيرورة الحياة. بين أيدينا رواية "وتمر الأيام". ايقاعها لحظات توحّد عذبة وثرية بذكريات الطفولة. عودة للالتحام بالأرض والسماء، وبالهواء الطلق والصخور.
كيف جاءت فكرة البحث في مكان بعيد؟ يشعر يوحنا بتبدّل العناصر من حوله. يذعن ولا يتذمر. كلها عابرة مقارنةً بحب فكتوريا. لحظة الاعتراف بالمشاعر تتخذ ايقاعاً متصاعداً: "فكتوريا! فكتوريا! ليتني حطباً في مدفأتك"!.
يتساءل كنوت هامسون على لسان يوحنا، كاتب الشعر وعاشق الأسئلة: "ما الحب على وجه الحقيقة؟". ويرفق السؤال بالإجابة: "ريح تداعب الورود؟ لا. انه حمم تسيل عبر أحشائنا. نغم جهنميّ يعيث حتى بقلوب العجائز". وها إن الإنسان يُهزم ثم يُرفع من جديد ويُحرق بنار لا تُطفأ حتى الموت. "أنا مملوء بك فكتوريا". الحب وحيد، ميّال الى العزلة والى النهاية غير المتوقعة.
ثمة نخلة لا تزهر أكثر من مرة واحدة، على الرغم من أنها تعيش زهاء ستين سنة تقريباً: انها زهرة "التاليبوت". يكمل يوحنا من أجل هذه الكلمات: "أنا مثلها. أزهر الآن فكتوريا". تقترب الأيام من الارتجاف. هو ابن الطحان وهي سيدة القصر. صراع الطبقات في الرواية، أقل حدة من النظريات الغاضبة. الأغنياء والفقراء ينظرون الى العالم كمعتوه ثمل. ليس مهماً إن كان ثملا من فرط السعادة أو من فرط الألم.
ترتبط فكتوريا بآخر، ويرتبط يوحنا بكاميلا، التي ينقذها من الغرق فتصل أخبار بطولته الى فكتوريا. في لحظات سردية مضطربة تصارحه بأن حبها لآخر أقوى من حبها له، وتشكره على التفهم. موت خطيب فكتوريا، الملازم الأول أوطو، يوهم القارئ بأن الحبيبين سيجتمعان معاً في الصفحة الأخيرة من الرواية. ولكن فكتوريا تموت. ترقص مثل المجنونة حتى تسقط. انها نزوة القدر. بين حين وحين، تنفلت من الرأس المتدحرج ضحكة خاطفة لاهثة. ماذا يبقى من الحياة عندما يصبح الموت أمراً واقعاً؟ يقرأ يوحنا الرسالة الأخيرة من فكتوريا، قبل ان تقرر انها لن تبصر النور غداً. كان هادئاً وقوياً مثل النبيذ، وصامتاً مثل الأجيال المنسحقة.
تسيطر الظلمة على ملامح يوحنا وهو يقرأ حشرجات فكتوريا. ليس ثمة امكان في هذا العالم لإثبات العتمة. انها خاصية الموت ورعب المكان الأخير: "لم أعد أملك القوة لمتابعة الكتابة. الى اللقاء حبيبي". تنتهي الرواية. على القارئ ان يتخيّل حجم الهزيمة في شخصية يقهرها هامسون بالشعر كي تتعذّب.
[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima
نبض