لم تكن تلك الضيعة ضيعتنا، لكننا اعتنقناها منذ أيام طفولتنا الأولى. كانت ملعباً متكاملاً متنوعاً، فيها كل ما يمكن أن يتمناه طفل من الخامسة الى الخامسة عشرة من عمره. فيها الطبيعة الخضراء قبل كل شيء، وأشجار التفاح والتين، وبعض الصنوبر التائه، وشجيرات برّية تشكل في ما بينها ملاذاً طبيعياً للعصافير، تلك المخلوقات الجميلة التي كنا نطاردها بلا هوادة خلال مهمات الصيد في ارجاء الضيعة كلها، وخصوصاً في أسفل الوديان حيث لم يكن قد وصل بعد المدّ العمراني. هناك كنا نجد البراهين العديدة لأمثولات التاريخ عن الحياة الصعبة التي عاشها القدماء من أهل هذه المنطقة، من أجل الحفاظ على حريتهم وحرية معتقداتهم. كانت بقايا البيوت المتواضعة المبنية من الحجر الوعر، التي انهار سقفها الترابي أفضل دليل على حياة صعبة عاشها هؤلاء، يفتتون الصخر ويصنعون من المنحدرات القاسية جلالاً مثمرة. كنا نجد في هذه المنازل المفرغة من كل حياة تذكر، مربضاً سرياً نختبئ خلف نوافذه المشرّعة ننتظر طريدة تحطّ من دون إدراك على أغصان شجرة التين الصامدة. وكنت أنا، بالتزامن مع هوايتي التي تبت عنها لاحقاً، محمّلاً شعور الذنب، أتلذذ باختلاق قصص في ذهني حول ما كان يدور في تلك المنازل المفرغة من كل حياة. لم يكن هدفي الفعلي آنذاك هو صيد العصافير، ولا أقول ذلك من باب رفع العتب أو الاعتذار المتأخر من أحفادها، بل كنت فعلياً أجد في تلك الرحلات التي تبدأ باكراً جداً مع أول شروق للشمس، مناسبات للتعرّف الى الطبيعة البرّية بجماليتها وتنوعها، للنزول الى أسفل الوادي، ومن ثم العودة الشاقة الى الأعلى، لنوع من الترويض الجسدي والفكري، لاكتشاف الطبيعة، ذلك "الآخر" الذي كان يشكل النقيض الفعلي لحياتنا في المدينة على مدار السنة.
في بدايات فصل الربيع، ونحن لا نزال في المدرسة في بيروت، كنا نبدأ رحلات التحضير للعودة الى الضيعة، فنستفيد من بعض العطل الاسبوعية، عندما يسمح الطقس بذلك، لتمضيتها في منزلنا الصيفي بالضيعة. كنا نبدأ بتمارين إعادة التعرف الى النواحي والامكنة التي تركناها في آخر الصيف الماضي، فنجول في أنحاء الضيعة ووديانها، تحت سماء تخترقها رفوف السنونو ومجموعات اللقلق العابرة من الشمال الى الجنوب مرفقةً بترانيمها الخاصة التي كانت تملأ الاجواء ألحاناً. وكان على أطراف الوادي الذي يفصل بين ضيعتنا والقرى الرابضة على التلال المواجهة، صخرة كبيرة إعتدنا الاختباء خلفها، لدى وصول رفوف السنونو المهاجرة. أعطيناها إسم "صخرة السنونو" ولربما لا تزال حيث هي، رابضة تشرف بصمت ومثابرة على الوادي.
أتذكر أن أجمل ايام السنة، كان يوم الانتقال الى الضيعة بعد انتهاء السنة الدراسية، وأسوأ الأيام كان يوم العودة الى المدينة في أواخر الصيف. أول نشاطاتي لدى عودتنا الى منزلنا الصيفي، تفقد كل الاشياء التي تركناها، كمن يحاول الاعتذار عن فترة الغياب الطويلة هذه. كنت أفتح الخزنة السوداء عند المدخل، وفيها دفاتر وكتب العام الماضي، لأتفحصها متخايلاً كيف أمضت هذه الاشياء فصل شتاء قارسا بأكمله وحيدة. أما مع نهاية الصيف، فكنت أعيد الكرة موضّباً تلك الأشياء بحنان، مودعاً إياها حتى الصيف المقبل. وكم كنا نفرح عندما يأخذ وزير التربية قراراً بتأجيل بدء السنة الدراسية ولو لأسبوع واحد. كان ذلك الأسبوع بمثابة "فترة رحمة" أو تعويض لـ"الوقت الضائع"، نمضيها في الضيعة في بداية الخريف. وكان الخريف يعلن مجيئه أحياناً في أواخر أيلول بعواصف تأتي لتهز الاوراق الصفراء عن الاشجار، فتتساقط على الطريق وتبدأ رحلة غزلها مع الرياح والامطار الخفيفة. كنا نلجأ الى المنزل هرباً من أول مطر، فيلتصق جبيننا بزجاج النافذة، ننظر برحمة وأسى إلى استسلام الاشجار الواحدة تلو الاخرى لمشيئة الطبيعة. ولربما لم يكن الأسى فينا على الاشجار والطبيعة فقط، بل على فصل صيف مضى، تخلى عنا وتركنا نسقط بدورنا تحت رحمة الأنظمة التربوية واستبدادها. لم نكن ندري أن هذه الفصول التي تتكرر دورياً بالرغم من اعتباطية الحرب وقسوتها، قد تنقطع يوماً ما لتحل مكانها سنوات الهجرة الاختيارية، نعود بعدها الى الضيعة وقد مرّ عليها وعلينا الزمن، مثل الممثل جاك بيران في الفيلم الايطالي الجميل "سينما باراديزو" حين يعود الى بلدته في الجنوب الايطالي ليجد تلك الاماكن مفرغة من حياتها السابقة، وقد استبدلت تراثها بحياة جديدة، تفتقر الى روحانية الماضي وجماليته.
كانت الاعياد المختلفة على مدار الصيف، بدءًا من عيد مار الياس في تموز مروراً بعيد مار زخيا شفيع البلدة وإنتهاءً بعيد الصليب في 14 ايلول، تشكل الايقاع الزمني الذي يضبط مسارنا في عطلة الصيف، فننتظرها بطقوسها المختلفة وأهمها عيد مار زخيا، حيث تتحول ساحة البلدة الكبرى المواجهة للكنيستين الى بازار مفتوح من الأكشاك الموقتة، معظمها لبيع الألعاب وقسم منها لحلويات العيد. لأسبوع كامل، يتغير مظهر الساحة فكأنك في إحدى البلدات في القرون الوسطى حيث يأتي الباعة الجوالون في مواسم معينة للتبادل ولتسويق بضاعتهم. لكن ذلك العيد في الأخص، الذي يقع في آخر شهر آب، كان يأتي بمزيج من الفرح كما الحزن ليقيننا باقتراب نهاية فصل الصيف العزيز على قلوبنا.
من الطقوس العائلية الأسبوعية في الضيعة سبت المناقيش. كنا نذهب يوم السبت صباحاً الى الفرن الوحيد في الضيعة، فيضع الفران أمامنا لوحاً عليه مستديرات العجين، فنصبّ فوقها بكل إتقان مزيج الزيت والصعتر و"نقرّصها" ومن ثم تدخل الفرن لتخرج مناقيش طازجة. من خلال هذه الطقوس الفردية يقترب المرء أكثر من الاشياء فلا تكون علاقته بها مجرد بيع وشراء، وإنما علاقة تفاعلية تجعل من الكل شركاء في صناعة الاشياء. أما يوم الاحد، فكان يوم رتبة القداس في كل قرى القضاء. نستفيق على أصوات الأجراس في القرى البعيدة، إضافة الى صوت الجرس في الكنيسة القديمة في الساحة. وعلى الرغم من عدم إنتمائنا إلى طائفة البلدة، كنا نرتادها مع أصدقائنا، وكأن الانتماء الى الضيعة يتخطى كل الاعتبارات الاخرى. القداس في هذه القرى هو أكثر من رتبة دينية. إنه مناسبة اجتماعية لإلتقاء الناس وللتعارف وتوطيد أواصر القربى بينهم.
يمكنني القول إن أهم ما كانت تعطينا إياه الضيعة هو شعور عميق بالراحة النفسية وبالأمان المطلق. في زمن لم تكن فيه بعد هواتف خليوية، لم يكن أهلنا يخشون تركنا نلهو منذ ساعات الصباح الأولى حتى آخر النهار في أنحاء البلدة كلها، وكأن الضيعة كلها لنا، ساحة لألعابنا ولدراجاتنا الهوائية. بالطبع لا نعود هنا الى القرن التاسع عشر، بل الى فترة ما قبل الحرب وخلالها، حيث كان الناس لا يزالون على قدر من المدنية والمسؤولية والاخلاق، فلا تجد موتوراً في العشرين من عمره، أو حتى في الخمسين، يقود سيارته بسرعة جنونية في أنحاء الضيعة، كما هي الحال الآن. كان نهارنا يتوزع على نشاطات عدة، من ركوب الدراجة، الى رحلات الصيد في الصباح الباكر، الى لقاءات وجدل دائم وعقيم مع الاصدقاء حول مواضيع عدة تحت شجرة الصنوبر، الى نزهات بعد الظهر، الى زيارتنا الاسبوعية لدار السينما.
سينما الضيعة لها قصتها الخاصة. لم أكن أدرك في طفولتي معنى هذا المبنى وتاريخه، الى أن فاتحني أحد الاصدقاء منذ فترة بأن هذا المبنى هو ملك خاص لأحد أقربائه الذي يعيش اليوم في أميركا، وبأنه كان فعلياً أول كرخانة لنسج الحرير في البلدة وحتى في القضاء كله. من هنا كان شكله الخاص، فلم يكن منزلاً تقليدياً عادياً بل مبنى مستطيل يعلوه سقف القرميد، وقد تم لاحقاً تحويله الى سينما الضيعة. لربما لعب هذا المبنى دوراً في الانتفاضة الفلاحية التي ابتدأت في هذه الضيعة بالذات، قبل أن تنتشر في القضاء كله، في العام 1858. كانت السينما تعرض فيلماً واحداً يتم تجديده كل يوم خميس من الأسبوع، وكنا ننتظر الاعلان عنه على اللافتة الوحيدة على الطريق العام، وكان في معظم الاحيان يعرض أفلاماً مخصصة لنا نحن الاولاد، من تهريج لوي دو فوناز الى بطولات سوبرمان وجيمس بوند. أذكر المرة الأولى تجرأ فيها مدير السينما على عرض فيلم إباحي، وكان ذلك مع بدايات الحرب الأهلية، فكان ذلك بمثابة حدث مهم في البلدة استرعى انتباه كاهن الرعية والأهالي، لكن الحرب ربما ساهمت في التخفيف من وطأته.
إن كل المدن والبلدات التي تحتفظ بطابع خاص يجعل منها وحدة متكاملة ومتجانسة تتمتع ايضاً بما وصفه الباحث المديني الشهير كيفين لينش بوضوح في "صورتها" التي تنطبع في ذهن الناس القاطنين فيها كما الزوار. هذا الوضوح في الصورة هو نتيجة تضافر عوامل متعددة ونتيجة بنية مدينية (أو قروية) متكاملة تتشكل من نقاط محورية، من أمكنة أساسية ومن محاور أو طرق رئيسية. عندما بدأت دراساتي العليا في العمارة، استندنا في إحدى الحلقات الدراسية الى كتاب كريستيان نوربرغ شولتز "عن روحية المكان" إضافة الى أبحاث كيفين لينش. وعندما طلب مني أن أعرض نموذجاً عن مكان يتمتع بهذه الروحية، لم أتردد في إعطاء "ضيعتنا" كنموذج حي، راسماً على ورقة كبيرة وفي بضعة خطوط الأسس البنيوية التي تتكوّن منها هذه الضيعة وهي: السوق القديم، ساحة الكنيسة مع الكنيستين، ومبنى الكرخانة الذي تحوّل الى سينما. كانت الضيعة لا تزال واضحة في ذهني من خلال هذه الأماكن والمعالم الأساسية في بنيتها التكوينية.
لدى عودتي من رحلتي الاميركية الطويلة، عدت لأتفقد الضيعة لأجد أن العديد من الأضرار قد لحقت بتراثها. فالسوق القديم اختفى مع إزالة ما تبقى من منازل قديمة ومتاجر كانت تزنّره ما عدا امتداده خلف الساحة. ففي أواخر الحرب أزيلت المتاجر ذات القناطر الجميلة وفيها الملحمة التي تتحول يوم الذبح الاسبوعي الى مشهد مسرحي بامتياز، حيث اللحام يلعب دور المجرم الذي ينهال على الضحية المسكينة. بعد ذلك بسنوات أزيل المنزل المقابل له الذي كان يقع فيه دكان السمانة. هاتان العمارتان، كانتا تشكلان النقاط الأساسية التي تحدد السوق القديم وتعطيه نكهته الخاصة. زال المبنيان ليحل مكانهما طريق واسع أفقد المكان "روحيته". على امتداد هذا الخط أقيمت منشآت جديدة، مثل الفرن الجديد، الذي تحوّل بسوء موقعه الى نقطة ازدحام دائمة، فيما كان الهدف الأساسي من إزالة المباني التراثية المجاورة التخلص من بعض الازدحام الذي كانا يتسببان به! لم ينج من هذا التدمير العشوائي في سبيل توسيع الطريق سوى مبنى تراثي آخر في أسفل الطريق العام، لا يزال يحتفظ بطابعه القديم ومتاجره ذات الابواب الخشب العريضة. بدورها، كأنها تماشي زمن الركود الثقافي هذا، انطفأت الاضواء في السينما القديمة وزالت آخر بقايا ملصقات الافلام تدريجياً عن اللوحة الاعلانية، لتبقى هذه شاهدة حية على أيام ماضية أفضل. أما الساحة العامة، فهي الوحيدة التي بقيت على حالها، بجوار الكنائس، وعلى مقربة من الملعب الكبير، ساحة لا تزال حتى اليوم تتحوّل خلال عيد مار زخيا الى واحة فولكلورية تطرد منها موقتاً السيارات التي، بتكاثرها المرعب، دمرت النسيج المديني في معظم القرى والمدن في لبنان.
أجبرتنا الحرب في بداياتها أن نمضي فصلاً واحداً من فصول الشتاء القاسية في بيت الضيعة. لم يكن هذا المنزل الصيفي بسقفه العالي ونوافذه العديدة مهيأ لفصل الشتاء فأعددناه بما تيسّر وأمضينا فيه أول فصل شتاء كامل. كان هذا بالنسبة الينا اختباراً جديداً نعيشه، من تركيب الصوبيا التي تعرفنا اليها للمرة الأولى، الى فرش السجاد في هذا المنزل الذي لم يعتدها. لكن بالرغم من البرد القارس والرطوبة التي كانت تتسلل الى أجسادنا، كان فصلاً شتائياً مميزاً، عرفنا فيه معنى الحياة الشتوية في الضيعة التي لم يكن يبقى فيها في الشتاء سابقاً سوى القليل من سكانها الأصليين. كان انقطاع الكهرباء يزيد الجو ألفة وحميمية، في ظل تهويلات الحرب وشائعاتها المتنقلة، فنجد ملجأنا في هذا البيت في ظل ضوء القنديل الذي نكمل بجواره تحضير فروضنا المدرسية. مع مجيء الربيع، تحوّل البرد القارس الى نسمات عذبة تتخللها زقزقة العصافير ونقيق الضفادع في برك المياه البعيدة. أضاف افتتاح فرع موقت لمدرستنا في ضيعتنا "قيمة إضافية"، فأصبحنا نرتاد المدرسة إما مشياً وإما على دراجاتنا الهوائية، فاستبدلت الرحلة المتعبة والمملة بباص المدرسة برحلات ممتعة مع الاصدقاء عبر طرق الضيعة المختلفة.
لربما كان أجمل ما يربطنا بالضيعة، ذلك الشعور الدفين بأننا نعيش في ظل نظام مختلف، لا يزال يحتفظ ببعض خصائص النظام الاقتصادي الزراعي، حيث العلاقة بين الانسان والاشياء مباشرة وحميمية، وحيث يطغى مبدأ الاهتمام بالاشياء والحفاظ عليها على مبدأ الاستهلاك السريع، نظام مبني على أسس مختلفة عن عصرنا "الحديث" الذي أباح تدمير الطبيعة والتراث في سبيل تحقيق الربح السريع، غير آبه للتناغم الضروري بين الاشياء ومحيطها، وبين الانسان ومحيطه. كما ان ذلك النظام الاقتصادي كان حراَ بما للكلمة من معنى أوسع. لم يكن مبنياً على الاحتكار واستغلال الملكية الخاصة إلى أقصى الحدود، فكانت معظم المساحات مفتوحة أمامنا، لا يسيّجها ولا يعزلها شيء، سوى في بعض الاحيان سياج متواضع يدعوك الى التأني أكثر منه إلى منعك من الدخول. لم نكن نعرف من يملك تلك العقارات الواسعة التي تزيّنها كروم التفاح والعنب والاشجار المثمرة، بل لم نكن ندرك في ذلك الوقت معنى كلمة "عقار خاص". كان كل شيء مشتركا، أو هكذا بدا لنا، وكل شيء مباح فلا من يعترض على طفل يمر حاملاً بندقيته، يستظل أشجارها ويقطف بين الحين والآخر تفاحة من كرمها.
لم تكن الحرب مسؤولة وحدها عن تدمير هذا النظام القديم لكنها بالطبع أدت الى تفاقم الضغوط عليه في ظل هجرة سكنية كثيفة من مناطق الى مناطق أخرى، أدت الى فقدان التوازن الطبيعي بين الاشياء والى انهياره. هكذا اندثرت الطبيعة وزالت معها الوحدة العضوية التكوينية للضيعة كما كنا نعرفها، فتحّولت خلال عقدين من الزمن الى مصير صالة السينما، مكاناً لا يزال يحتفظ ببعض خصائصه، إنما فاقد روحيته الاصلية. وكما في حال السينما، لم يبق من الضيعة سوى بعض الآثار الجميلة المهددة بالانقراض، تشبه ملصقات الافلام القديمة التي يتأكلها الزمن ببطء على لوحة الاعلانات في الشارع العام. حتى الكنيسة، لم تعد تدق أجراسها بسواعد الشباب الذين لم يتخلفوا يوماً عن ذلك الواجب الديني، بل استبدل صوت الجرس الأصيل بتسجيل خافت يؤكد التحوّل التدريجي لكل الاشياء الى نسخ اصطناعية تفتقر الى عمقها الاصلي.
شعوري تجاه هذه الضيعة التي ربيت فينا، قد لا يختلف كثيراً عن شعور السينمائي بيار باولو باسويني، الذي كتب معلقاً على رواية ساندرو بينا "قليل من الحمى": "يعطينا بينا صورة كاملة عن إيطاليا في ذلك الزمن. عند قراءة هذه الصفحات ينتابنا شعور كبير يجعلنا نرتعش، ويعطينا الرغبة في الذهاب الى ذلك العالم وذكرياته. في الحقيقة، إننا لا نعيش مجرد تغير في العصر، بل تراجيديا... الواقع الحالي ينظر الينا بنظرة الانتصار الساخرة: حكمه القاسي قضى بأن تختطف كل الاشياء التي أحببناها من أيدينا".
كان بينا يستشعر إيطاليا خلال ثلاثينات القرن الماضي حين كانت الاشياء والامكنة تبدو كأنها أزلية. كانت القرى في السهول وعلى القمم لا تزال تحتفظ بطابعها التقليدي الجميل. هكذا أيضاً بالنسبة لنا، كانت هذه "الضيعة" تشكل عالمنا الخاص، ولم يتبادر الى ذهننا بأن أي شيء قد يهدد صورتها هذه، تالياً صورة عالمنا ووجودنا فيه. كنا نعيش فيها ونعيشها بكل كينونتنا. لكننا استفقنا في أحد الايام لنجد أنها قد اختطفت من أيدينا، أو ربما تكون قد هربت هي وذكرياتها الى عالم أفضل.
نبض