كان حضور الشابة رانيا يمّين الى الستوديو كافياً ليحصل زافين على جواب عن سؤاله المكرر: "ماذا تريدين من برنامج عالأكيد؟". امرأة في الـ26 من العمر، جاءت ثمرة علاقة سريعة بين رجل وامرأة أصبحا في ما بعد والديها. الأول حذف وجودها مثل نكرة لا تجوز فيها أل التعريف، والثانية كبّرتها في أحشائها لتسلّمها الى أيام تدور فيها صراعات رهيبة. قضايا المرأة الصادقة، أينما حلّت، تحرّك الشاشة والمُشاهد، ثم يسود صمت عميق.
منذ ان أخذ الاعلامي زافين قيومجيان على عاتقه التوسّط لحل مشكلات المواطنين، وهو يترقّب قضية تجعله "سيرة" الناس ومواقع التواصل الاجتماعي للأيام المقبلة. رانيا يمّين كانت تلك القضية. حملةٌ اعلانية سبقت الحلقة، جعلت المُشاهد يُدخل بعض التعديلات على أجندته اليومية. من غير اللائق أخلاقياً ان تصبح آلام الناس مجرّد ذريعة لمديح الآخرين وترك شعور جميل لديهم. حين يشتدّ الوجع، لا يحق للمسكّنات ان تدّعي بأنها أكثر من وسيلة. تلك الشابة، بإخراج تجربتها الى العلن، بدت أكثر من وجع. بدت عبرة وقضية.
المواطن في بلد السياسة والمحسوبية والأمن بالتراضي، سيجعل من أقل الحقوق المهدورة قضية وطنية، حتى لنظّن ان المشكلات تُحل بتأمين مكبّ نفايات لهذا الحي وتعبيد طريق للحي الآخر. هذه المطالب، والتي من المفترض ألا تشكّل مادة لحلقة تلفزيونية، لولا غياب المحاسبة واستكبار بعض رؤساء البلديات وتستّرهم خلف جهات سياسية نافذة، يمكن اعتبارها ثانوية مقارنة بقضية نساء تخذلهن القوانين، وهي تصبّ تلقائياً في عكس توقعاتهن. المرأة، في "النضال" العربي، شعار فقط، لا بل لافتات للمزايدة والظهور الاعلامي، وستظل كذلك حتى تصبح القضية شغلاً شاغلاً لرأي عام متعقّل وواعٍ، لا يعتريه الانقسام ولا تحرّكه الغرائز المذهبية والحزبية، ولا يبقى مزاجه مرهوناً بتقلبات الحاجة الجنسية. في هذه الحياة ما يستحق الانتظار، فلننتظر.
أثبت فحص الـDNA ان جاك والد رانيا، لكنه لا يريد الاعتراف. في "ثقافة" اللبناني "العادي" مفهومان عن القضايا التي تصبح في عهدة المحاكم: المماطلة ومبالغ كبيرة من الأموال. الأب الذي سدّ كل احتمالات التوصل الى اتفاق في وجه زافين ووسيطته، إنما أراد ان يُمعنَ صفعاً في وجه ابنته وطفلها الذي وقع ضحية صفقات الكبار. بدا واضحاً تكتّمه عن كثير من الوقائع والتفاصيل. عبثاً حاول زافين والمحامون في الستوديو استدراجه الى خيط قد يغيّر مسارات كثيرة. ما في القلب ظلّ هناك معانداً. لا يكترث المُشاهد أحياناً لإطلاق أحكام غير منصفة. يكفي ان تكون الأوجاع حقيقية لتحفر فيه ثقوباً تشبه البقع. في قضية رانيا وأبيها، وبصرف النظر عمن يملك الحقيقة، دافعٌ ما، أخلاقي أو إنساني، أو ربما تأثير الصورة ونبرة المذيعة وهي تقرأ النصّ بغضب، جعلت المُشاهد ينحاز الى رانيا انحيازاً لا يتطلّب تبريرات، ولا يقبل لها أقل من الخلاص العادل، ضارباً عرض الحائط كل ما يمكن ان يكون مخفياً في الصدور.
مصباح علاء الدين لم يكن يوماً حقيقة لنصدّق ان للحلول السحرية مكاناً على هذه الأرض. قضية رانيا بلغت من العمر أعواماً ولا تزال تحار عند أي برّ ترسو. الكاميرا حين تقع على أشخاص صادقين، تجد نفسها تنقل الحقيقة بصدق مشابه. مخرج البرنامج باسم كريستو كان هو الآخر وسيطاً. ما بين معاناة رانيا والمُشاهد في منزله، ترك الصورة على سجيتها واكتفى بلمساته كي تظهر القضية مثل دراما مكسيكية. زافين، الذي يغمره فرح الانتصار في كل مرة يصل بـ"أبطاله" الى نهاية سعيدة، وعد بمتابعة القضية. ذاكرة البعض تنسى الوعود، وذاكرة البعض الآخر تسجّل وتحاسب. لكن شيئاً لم يكن بقسوة كلمات رانيا علينا: "انتَ يا بابا رح تكون عبرة لكل انسان بيجرّب يضحك على مرا"!
نبض