يعرّف علماء النفس والفلاسفة الحربَ بأنها صوتُ اختناق العقل في الحنجرة، إذ حين يحصل ذلك الخطبُ الجلل الذي يسموّنه "الحرب" يتلكّأ خطاب العقل، وتبهت صورته، ويتلاشى تركيزه، ويصبح شبحاً وأسيراً وضحيةً وبلا وظيفة، فتكون الحنجرة حاضنتَه الخانقة، ولا يبقى منه سوى الصوت الشاحب الضئيل ينطلق يائساً ملتاعاً يتضوّر من مأساته، ويكمن في خضمّ أنين يشبه أنينَ نايّ قادم مثل خيال سحابة منفيّة من خلف العصور والدهور والأهوال. عندها لا يرى هذا العقل المعطّل هيجانَ الدم حين يتدفّق من الرؤوس المقطوعة، ولا يشمّ رائحة الخراب، ولا يشعر بحرقة النداء، ولا يسمع صراخ الأطفال وهم ينوحون على موتاهم، أو على موتهم المبكّر وهو يُحدث شرخاً عظيماً في جبهة الإنسانية الشمّاء، ولا يحسّ بما يحلّ من فجائع لا تُبقي ولا تَذَر، ليتحوّل صوتُ العقل إلى صدى ضائع سادر تنهشه الريح وتذروه بوحشيّة في دوّامة هبوبها، ولا يترك وراءه غيرَ صراع أحمق أجوف تتقاطع فيه كلّ الأصوات خلا صوت العقل، وكلّ الألوان عدا لون الضمير، فيتغيّر طعم الماء، وتفقد الأرض ملوحتَها النقيّة والسماءُ زرقتَها الصافيةَ، وعلى الدنيا وما فيها ومن فيها السلام.
العراق في الذاكرة البشريّة منذ فجر التاريخ بلدٌ عظيمٌ بما يُروى (والله أعلم) عن الحضارات التي نبتت كالقمح المجيد في أرضه، وانبثقتْ من ترابه مثل ثريا لا ينضب ضوؤها، وتفتّحتْ كشقائق النعمان بين يديه الكريمتين المانحتين، ونضجتْ وتألّقتْ مثل رؤيا ربّانية في خيال محرابه. والعراق على الخريطة أيضاً بلدٌ عظيم يخترقه نهران باذخان أزليّان هما دجلة الخير أمّ البساتين، والفرات البهيّ المحمّل ودائع العطاء ووعود الأمل، يرويان واديه من أعالي زاخو إلى حضن الفاو، فيه كردستان في الشمال، جبالٌ شمّاء تكتظّ بأشجار الجوز واللوز والبلّوط والكستناء، وتحفل بالجمال والعذوبة والألق والسحر أينّما ولّيت وجهك، تضاهيها صحراءُ أرحب من صدر الأفق في الغرب هي منجمٌ واسع للخير المكنوز في صفرتها البهيّة بلا نهاية. وتمتدّ أهوارٌ في الجنوب فيها من غزارة الحياة وعمقها وندرتها ما لا تحويه أيّ أرض أخرى في الكون، وتقاربها ثلاثٌ وثلاثون مليون نخلة بستمئة نوع من التمور تحوّلتْ لفرط خضرتها العنيفة إلى قطعة غنية من سواد كثيف، في فسيفساء جغرافية وبشرية وطبيعية أخّاذة تختزن ملايين الحكايات دونها حكاياتُ ألف ليلة وليلة، وحكاياتُ مليون ليلة وليلة، لو قُدّر لها أن تتوزّع على سكّان الأرض أجمعهم لصارَ لكلّ إنسان في هذه المعمورة حكايةٌ عراقية يستعين بها على كآبته وحيرته وحاجته القصوى للسرد والحكي.
أيّ حكمة ماورائيّة نسجت أرضَ العراق بالمعنى والقيمة والفرادة والبيان! أيّ فلسفة حاكت خطابها الكونيّ على ضفاف العقل العراقيّ وهو يعلّم العالمَ فقهَ الحرف والكلمة والجملة والقصيدة والملحمة! وأيّ فضاء مفتوح يُمطر منّاً وسلوى وجمبداً وسنابلَ وقصصاً فريدة وأساطيرَ مبتكرة أصيلة على ذهب أسود يكمن مثل كتاب مقدّس في باطنه المحروس بالقرابين والأدعية والتعاويذ! وأيّ حسد جبّار سيظلّ يرصد هذا الفردوسَ العجيبَ ويخترقه بهمجيّة طاغية ليحوّله بقوّة الشياطين وأعداء الحضارة إلى أنقاض وأشلاء وشظايا ورماد؟
للبلاد - كي تعيش بهناء وراحة بال وسعادة - حظوظٌ، لا يكفي حتى تعيش برغد وبحبوحة وأمن وأمان أنْ تكون أرضُها من ذهب وسماؤها من يقطين، بل أن يكون لها حظٌّ وتوفيقٌ يستثمر ذهب أرضها ويغتني بيقطين سمائها، ويصدّ عيون الحسّاد المتربصين بها من الإنس والجنّ والحيوان والنبات والصخر وكلّ من له عين في وسعها أن تحسد، وفؤاد في وسعه أن يخون، ويدان ملوّثتان في وسعهما النهب والسلب.
ونحن العراقيين بكلّ بساطة وإيجاز وبلاغة لا حظّ لنا، نملك كلّ شيء إلّا الحظ. شاعرنا الرائد بدر شاكر السيّاب هو حظّ العراق الناصع البليغ، شاعرٌ حداثيّ خلّاق يفتتح فجراً جديداً خلّاباً للشعرية العربية، ويكتب معلّقتَه الفريدة الدامية "أنشودة المطر"، ويموت غريباً يحفّه البؤس والحرمان والفقر، يموت مبكّراً دون الأربعين بلا دموع ولا وداع ولا عزاء، يشيّعه المطر بنشيد غزير يعلو صوتُه على صوت البكاء والنحيب، يموت وهو يصيح بالخليج... يا خليج، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى، فيرجع الصدى كأنّه النشيج... يا خليج يا واهبَ المحار والردى، فيضيع اللؤلؤ العراقيّ من الفاو إلى زاخو بين المحار والردى. ولو أنّ القدر أمهل السياب سنةً أضافية كي يكمل عامَه الأربعين ليصيح على ما تبقّى: يا خليج يا واهب المحار والردى، لضاع المحار في غيهب الصدى وبقي الردى. هذه هي نبوءة السياب العراقية، هذه هي لعنة العراقيين، الردى ولا شيء غير الردى.
الترابُ العراقيّ الذي يُخفي تحت بطانته ويستر في جيوبه الخلفيّة كمائن من ذهب، ترابٌ جاف مغبرّ لا لون له ولا ملامح، لا يمكنكَ أنْ تدوسَ عليه من دون أن تلسع نارُهُ باطنَ قدميكَ، وتدميها إذا لزم الأمر؛ ترابٌ متكلّس معجون بدم شهداء وضحايا ومغدورين وتائهين ومهمّشين ومنسيين وملائكة؛ ترابٌ شائك ومعقّد مرّتْ عليه سنابك خيل غزاة وسرفاتُ دبابات مستعمرين وبساطيلُ جنود مرتزقة لا يجيدون سوى القتل والسرقة والترهيب والاغتصاب؛ ترابٌ طالما تغنّينا به وأنشدنا له وتفاخرنا بالانتماء إليه، لا سبيل للخروج منه إلّا في العودة إليه، وها هو الآن يعاقبنا على حبّنا وشغفنا وبلاهتنا وسوء طالعنا وغفلتنا وطراوة عواطفنا فيطردنا خارج جنّته أو ناره لنبحث عن تراب آخر يرأف بأقدامنا الحافية المدمّاة، يا لها من مكافأة مجزية توغر صدورَنا بالنقمة على ترابنا والتفكير بالهجرة عنه ووداعه إلى الأبد بلا حسرة ولا حنين ولا أسى. وأيّ تراب آخر يقبلنا يا تُرى، ونحن عراةٌ ومستلبون ومشوّهون ولا نحسن شيئاً؟! أيّ تراب آخر سيرضى أن ننتمي إليه ونحن بلا صوت ولا عقل ولا يدين ولا قدمين، فقد أخذت الحروب منّا كلّ ما نملك وما لا نملك، ولم يعد لدينا ما يمكن أن يحفظ الحدّ الأدنى المقبول من إنسانيتنا؟! وأيّ تراب سيجازف بإيوائنا لنكون عالةً عليه ونشازاً بارزاً في سمفونيته الحضارية؟
الحياة العراقية تحت ظلال هذه اللعنة الوارفة حياةٌ ضارية مزجّحة بالفجيعة، تسير من نقمة إلى نقمة، ومن هجرة إلى هجرة، ومن عذاب إلى عذاب، ومن عبوة ناسفة إلى سيارة مفخّخة، ومن عدوّ معلوم إلى عدوّ مجهول، ومن شعار زائف إلى شعار مضحك تافه. تكالبتْ علينا الأعلام والصور والشائعات والأكاذيب والصراعات الدنيئة فلم نعد نفرّق بين قاتل وقاتل. فقد اختلفت القبائلُ البدائية على مصالحها الرخيصة لكنّها اتفقتْ على قتلنا وتشريدنا وتشويه سمعتنا بين الشعوب وتمريغ أنوفنا في وحل القهر والإذلال. مصيرنُا القاتم ضحيةٌ متاحة قابلة للبيع والشراء والمساومة؛ ضحيةٌ تلاعبَ بشرفها المستعمرون واليساريون والقوميون والإسلاميون والليبيراليون والمغامرون والغرباء والعيّارون والشطّار وقطّاع الطرق، المتعصّبون منهم والمعتدلون، المتشدّدون والمتسامحون، الأذكياء والأغبياء، المتقصّدون والعفويون، التجّار والرعاة، الأسياد والعبيد، اشتركوا كلّهم في دحر أرواحنا ودكّ مواقع أجسادنا المشرعة أبداً لمزيد من التمزيق والتفتيت. لم تعدْ لنا حياةٌ عراقية تنصف إنسانيتَنا في أبسط شكل حرّ من أشكالها، فبماذا يفيدنا عراقٌ موحّدٌ أو منقسم، ديكتاتوريّ أو ديموقراطيٌّ، أحاديّ أو فيديراليّ، دولةٌ أو دويلاتٌ، تحكمه الطوائف أو الشركاتُ الأميركية، طالما أنّ اللعنة العراقية الكبرى تركت العراق بلا عراقيين، ودجلة والفراتَ بلا ماء نقيّ زلال، والنفط العراقيّ بلا حارس، والتراب العراقيَّ بلا هويّة، والمستقبل العراقيّ بلا فجر؟
أحد عشر عاماً على زوال الحكم الديكتاتوريّ والعراقُ يرزح تحت حكم ديموقراطيّ أعرج؛ حكم تقوده "عمليةٌ سياسية" متعثّرة تتجّه اتجاهات ناقصة وغير واضحة، كرّست الطائفية والفردية والشقاق والنفاق والتهميش والانتقام والعزل، وارتجلتْ - على طريقة النظام السابق - جيشاً جرّاراً وشرطةً محلية ووطنية لا أوّل لها ولا آخر، وارتجلتْ أنظمة وقوانين طوارئ من نوع خاص تسمح لها بتنفيذ مخططاتها ونظريتها في الحكم، وتحوّلتْ مدينةٌ مثل الموصل إلى ثكنة عسكرية قتلت القوّات العسكرية والأمنية والشرطية فيها كل فرصة للحياة. كلّ الطرق الرئيسية مغلقة، وعليك كي تصل من بيتك إلى دائرتك أو بالعكس، أن تنفق زمناً يكفي لقراءة كتاب، والحجّة الأمنية هي المبرّر الذي تتجنّده السلطة لفرض كلّ شيء بالقوّة والاضطهاد. غير أنّ ذلك وأكثر منه بكثير لم يقلّل كمّ السيارات المفخّخة والعبوات الناسفة واللاصقة والمسدسات الكاتمة والخطف والقتل، في فضاء مشبع بالخوف والريبة والشكّ بكلّ شيء ومن كلّ شيء. مع ذلك كانتْ حياة الموصليين تمشي على علّاتها بعين واحدة وقدم واحدة، لكنّ الهزيمة المنكرة التي تعرّض لها الجيشُ بتعداده الهائل في الموصل، في عملية غامضة مشبوهة تكسر أفقَ التوقّع، وتضع الحكومة (العملية السياسية) أمام أحراج سياسيّ وعسكريّ ومدنيّ وأخلاقيّ يصعب تبريره؛ انكسارٌ وضع الخطابات والمشاريع والوعود والأحزاب والكتل السياسية ومجلس النواب في سلّة المهملات، وكشف عن عجز وفقر وغباء وقلّة حيلة وعمى سياسيّ وعسكريّ لم يشهده أيّ نظام سياسيّ في العالم، وهو ما يفتح إشكالية اللعنة العراقية على أكثر من رؤية، وأكثر من اتجاه، وأكثر من فضاء، وأكثر من حساسية، كي يبقى العراقيّ، أينما كان، وتحت أيّ مسمّى، رهينةً أبدية لها، لن يسلم منها أحدٌ حتى وإنْ كان يظنّ ذلك بحسب من يتوهم أنّه يحميه الآن. لا حماية لعراقيّ يتعرّض لشمس تموز الحارقة، أو برد كانون القارص. فاللعنة العراقية تتوزّع على رؤوس العراقيين من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، ومن الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، حتى يتساوى العراقيون في شقائهم ومصيبتهم وموتهم المبين كي يؤمنوا في نهاية المطاف أنّهم شعبٌ واحد.
نبض