الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

"ماركس، دون دوغمائية ودون تفريط"

جمال القرى
A+ A-

لقد أزاح "الربيع العربي" أقنعة كثيرة، وسيكون طويلاً محور دراساتٍ ونقدٍ للمنظومات الفكرية والسلطوية المتحكّمة في صوغ بنية مجتمعاتنا، وأكثرها انتاجية هي المتقابلة والمتجادلة والمختلفة منها.


ان تحديد الحامل الاجتماعي والسياسي لهذا الحراك غير المسبوق يشكّل ضرورة لاستقراء مسارات التغيير، وخصوصاً اليساري منه، نظراً الى انهياره وتشظّيه وبؤسه ومحدوديته الفكرية والتنظيمية وتخلّفه عن فهم قضايا مجتمعاته الملحّة وحملها،، بما فيها استخدامه لخطابٍ موروث من حقبات ولّت، ولأفكارٍ سُحبت من سياقاتها التاريخية، ولمفاهيم أدّت دورها في مرحلتها، دون إحداث اي تطوير فيها من حيث تمثّلها في قضايا راهنة، لاعتبارها صحيحة ونهائية بالشكل الذي تمثّلت فيه في حينها، وصولاً الى تبنّي صفّ أنظمة سياسية لم تتوانَ يوماً عن سحق شعوبها.
لقد حاول غسان الرفاعي الماركسي العتيق في كتابه "ماركس، دون دوغمائية ودون تفريط" قراءة ما يحدث مرحلياً بعيون ولغة ماركسية. فهل يصحّ استخدام الكاتب لنقد فكرٍ ما أدوات هذا الفكر تحديداً؟ لا بدّ من ان تكون فاتحة لنقاشات جدية وجريئة ومطّلعة في آنٍ واحد.
سأتناول رأيين ماركسيَّيْن من جذور حزبية مختلفة ناقشا أفكار الكاتب، هما الدكتور محمد علي مقلد والدكتور فواز طرابلسي في ندوة عُقدت في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، على ما بينهما من تباينٍ أغنى المضمون.
عرّف مقلّد بماركس، كفيلسوفٍ وعالِمٍ افتتح قارة علمية في التاريخ على غرار القارتين العلميتين اللتين افتتحتهما اليونان وغاليليه في علميّ الرياضيات والفيزياء، وكمؤسّسٍ لعلم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، اي للعلوم الانسانية. وفصل بين التجربة السياسية في الاشتراكية السوفياتية وتجربة الاحزاب التي دارت في فلكها، والتي بُنيت كلها على اساس فلسفة ماركس الايديولوجي، وليس على أساس علمه. لقد أتاحت المادية التاريخية للعلوم الانسانية وللدراسات الادبية والفنية المجال للاستفادة منها، بخلاف العلوم السياسية التي عجزت عن استثمارها استثماراً ناجحاً، ما أوصل الى نقدٍ ضرب بسيفه الماركسية السياسية الفلسفية الإيديولوجية، وليشمل العلم أيضاً.
واعتبرمقلّد، ان القسم الأول من الكتاب جاء نقداً دفاعياً عن الماركسية في مواجهة كتاب فالح عبد الجبار "ما بعد ماركس" الذي قارب فيه حدّ"إعلان نهاية الماركسية"، وتقويض أساسها الفكري الفلسفي، المادي الديالكتيكي، ومن دون ان يسمّيه، بل وصفه بأنه فكر "تجزيئي تجريبي يلغي فكرة التعميم والفهم الشمولي، ويلغي التفكير الفلسفي لمصلحة علم الاجتماع"، وكذلك، رؤيوياً لإيجاد سبل "معالجة أسباب أزمة اليسار بعد إزالة العقبات الرئيسية، لبناء اليسار الجديد". كما اعتبر ان الدوغمائية والتيارات الاجتهادية التجديدية التي لم تستكمل بعد قواعد المتابعة العلمية هي من أسباب المحنة الماركسية المعاصرة.
اما القسم الثاني من الكتاب، فقد تناول فيه العولمة وبدا متفقاً مع عبد الجبار على ضرورة تجديد النظر إلى الرأسمالية المعولمة، انطلاقا من منهجية ماركس الديالكتيكية التاريخية، مع الأخذ في الاعتبار أن " للرأسمالية المعولمة سمات ومعالم جديدة، تختلف عن الرأسمالية التي بحثها ماركس، وعن الرأسمالية التي واجهتها التجربة السوفياتية"، مقرّاً أن هذا البحث "يصطدم بعقبات فكرية وسياسية تنتجها التفسيرات المتحجرة لفكر ماركس، التي تضفي عليها صفة الاطلاق، بإسم المبدئية ".
اما الدكتور طرابلسي فقد أمعن نقداً تفصيلياً للكتاب. فاعتبران عودة الكاتب الى ماركس والماركسية كحلقة عليا في تطوّر الفكر الفلسفي خلال ٢٥ قرنا، هي " اشبه بلون من الاصولية ترى التجديد في العودة الى النص الاصلي المقدّس، واستلهام مثال السلف الصالح، كردّ فعلٍ على الهزائم، وفي المنعطفات التاريخية، او محاولة ارجاع المتغيّر الى الثابت". وأكمل في اتجاه نقد النظرية والتجربة السوفياتيتين والعولمة في ضوء ما جاء في الكتاب.
فعن السوفياتية النظرية كتب انها "استنتجت خطأً من التوازن الدولي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وبأن شروط الثورة قد نضجت على الصعيد العالمي.علماً انها في الممارسة تخلّت عن فكرة الثورة العالمية منذ سنواتها الاولى، وبعيد الحرب العالمية الثانية باتت قوة محافظة على التوازن الدولي بدلا من السعي لتغييره". وانتقد استخدام "ظاهرة التوجّه الاشتراكي" في التجربة السوفياتية بدل " ثورة او تجربة او نظام"، والأخذ عليها "انها ولدت على قاعدة اقتصادية متخلفة، في حين ان تخلّفها يفسَّر بتخلّف التجربة الديموقراطية حيث لم تنجح الظاهرة السوفياتية النظرية في تحويل الديموقراطية العفوية المتمثلة بالسوفياتات الى ديموقراطية من نوع جديد"، واستخدام مقولات "التخلف" و"الظاهرة" و"الجمود الستاليني" باعتبارها كل التقويم الفعلي للتجربة السوفياتية، الذي يجري خارج المسار التاريخي للتجربة بانجازاتها والنواقص والأزمات أسباب الانهيار.
ويكمل طرابلسي نقده في اتجاه ثورة اكتوبر ١٩١٧التي وصلت" بعد تصفية حقبة الديموقراطية المجالسية، والارتداد الى نظام حكم الحزب الاوحد المرتكز الى قاعدة عسكرية-امنية، وجهاز بيرقراطي، وديكتاتورية الزعيم الأوحد، على حساب الديموقراطية السياسية والقانونية، وهي الديموقراطية البورجوازية التي بإسم رفض بورجوازيتها تؤيد قطاعات واسعة من الشيوعيين واليساريين انظمة الاستبداد العربية".
اما عن"اسباب سقوط التجربة السوفياتية فيبحث عنها المؤلف في التجربة ذاتها وبسبب اخطائها الداخلية، لا بتناقضاتها وبمنافستها مع المعسكر الرأسمالي، علماً انها سقطت أيضاً في المنافسة الاقتصادية-الحربية مع الولايات المتحدة من خلال استراتيجية "حرب النجوم" وما استدعته من كلفة اقتصادية لم يكن للاتحاد السوفاتي قدرة على تحملها"، كما انه "لم يشرح لماذا تنجح البورجوازية في تخطّي أزماتها، فيما أزمة السوفياتية النظرية وظاهرة التوجّه الاشتراكي تؤدي الى انهيارها؟".
اما عن العولمة فقد وافق طرابلسي تشدّد الرفاعي باعتبارها تعزّز كونية الرأسمالية وتنمّي تبعية البلدان النامية وتزيد من التناقضات والازمات المستعصية، وينتقده لسجاله ضد نقّادها الاصلاحيين لاعتبارهم "اصحاب أمنيات يسهمون في تأبيد توحشها (جوزيف ستيغلتس)". وبعد تقديم رؤيته للاقتصاد المعولم وتبعاته، يستنتج ضرورة إعادة النظر الجذرية في دور الطبقة العاملة الشمولي الخلاصي.
فـ"العولمة، الحاملة لتلك التناقضات والنتائج الاجتماعية والانسانية الكارثية والانهيار المحتوم، لا تملك ان تكون متفوقة حتى على التجربة السوفياتية، بحسب رأي غسان. فانهيارها وليد اسباب داخلية وليس وليد منافسة الرأسمالية لها". ممّا يبيّن ان المؤلف الديالكتيكي يجانب الديالكتيك في تحليله.
ويختم طرابلسي مرافعته النقدية بالقول "ان التجريدية الفلسفية تعطّل حيوية الماركسية كنظرية لإنتاج المعارف تهدف الى تغيير العالم حيث اكتفى الفلاسفة بمذاهبهم المختلفة بتفسيره"، أمّا المؤلّف فقد أحال الماركسية الى اقتصاد سياسي مع انها نقد للاقتصاد السياسي وليست مذهباً من مذاهبه. ذلك ان اهمية ماركس وأنغلز تكمن في نظرية الاقتصاد الاجتماعي، اي دراسة الطبقات وآليات تكوّنها وتحوّلها وصراعاتها ودورها في انتاج التاريخ وصنع البشر لانفسهم بانفسهم". واعتبر "ان تطيّر الكاتب من علم الاجتماع الذي أسسّه ماركس، هو الوسوسةَ السوفياتية النظرية والتطبيقية التي ألغته فلسفتهالاعتباره مذهبا بورجوازيا".
ويختم متمنيّاً الرقيّ الى يسار يتجاوز الرأسمالية الى حياة ونظام جديدين تتحقق فيهما مصالحة الحرية مع المساواة.


طبيبة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم