الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

"سيلفي" وجلسات تصوير على أشلاء الضحايا وأنقاض المرفأ... ما تفسير السوسيولوجيا وعلم النفس؟

جودي الأسمر
"سيلفي" وجلسات تصوير على أشلاء الضحايا وأنقاض المرفأ... ما تفسير السوسيولوجيا وعلم النفس؟
"سيلفي" وجلسات تصوير على أشلاء الضحايا وأنقاض المرفأ... ما تفسير السوسيولوجيا وعلم النفس؟
A+ A-

فوق الأنقاض والرفات، وعلى وقع أنين المآتم، ووسط دماء وجروح ودموع لم تبرد بعد، يقصد مرفأ بيروت أشخاص لالتقاط "السيلفي" والصور الشخصية. ويذهب بعضهم إلى تنظيم جلسات تصوير عن سابق إصرار وبحرفيّة مدروسة، حتى أنّ معلومات أفادتنا بوساطة يسعى لها البعض، لـيطلّوا بابتسامة وصورة على مشهد الموت.

صور أثارت بانتشارها على مواقع التواصل غضباً واسعاً، خصوصاً لدى اللبنانيين الّذين وجدوا فيها شائنة أخلاقية. وثمة اعتقاد بأنّ أصحاب الصّور يشمتون بالتفجير، في بلد هدّته الانقسامات وأفعال الكراهية.

وفي ضوء جروح جديدة تفتحها هذه الصور لدى اللبنانيين وهم حقاً بالغنى عنها، تستطلع "النهار" تفسيرات سوسيولوجية ونفسية يضعها أهل الاختصاص في محاولة تفكيك علامات استفهام كبيرة برسم هذه المشاهد.

سياحة وسيلفي الكارثة

الأستاذ والباحث في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية، الدكتور شوقي عطية، يلفت بداية إلى أنّ زيارة مواقع الكوارث "ليست طارئة على التاريخ البشري ولا خاصة بلبنان، ويطلق عليها مُسمّى "سياحة الكوارث" (disaster tourism). لكنها ظاهرة ازدهرت في السنوات الست الأخيرة، لأن نشاط السوشيل ميديا خلق لهذه السياحة هدفًا بالظهور الاجتماعي، بحيث يقصد السائح مكان الكارثة ليلتقط ما يسمى بـ"سيلفي الكارثة" (disaster selfie). وتحتشد المواقع بصور في أماكن الكوارث حول العالم كأندونيسيا والنيبال وأميركا وغيرها. ومنذ شهور انتشرت "سلفي الكارثة" ومن بينها صورة نصف عارية في محطة تشرنوبيل، حيث وقع حدث نووي تاريخي عام 1986 حصد نحو ستة آلاف ضحية.

وأفادت إحدى وكالات السياحة لـ"رويترز" عن زيادة بنسبة 40٪ في حجوزات الرحلات منذ أن عرضت شبكة HBO مسلسل "تشرنوبيل" في أيار 2019. ويضيف عطية: "إن هذه الظاهرة دفعت بكاتب السيناريو للتنبيه من مضار الإشعاعات النووية. فقد يخسر الفرد حياته لأجل السيلفي". ومع تكاثر الصور كتب للزائرين عبر "تويتر": "تصرّفوا باحترام مع كل عانى وضحى".

ينتقل عطية إلى لبنان ليذكّر بأن لقطات كهذه ظهرت في حرب تموز "وأشهرها صورة من الضاحية فازت بجائزة World press photo award". ونَشَر تقرير في مجلة Marianne الفرنسية، أنّ السيارة الحمراء محور الصورة ضمت سائقاً شاباً وشقيقتيه ورفيقتين، قالوا إنهم من سكان الضاحية رغم أنهم مسيحيون، لكنهم هربوا خلال الحرب وعادوا لتفقد المنزل. وأضاف السائق أنه تردد في كشف سقف السيارة، لكن الحرارة دفعته للقيام بذلك. نقّادٌ فسروا الصورة على أنها تجسيد للطائفية، وغيرهم وجدها تعكس الفجوة الاجتماعية بين فقراء وأغنياء لبنان.

لكن "الدافع الاجتماعي تبدل في لبنان لأن الكاميرات عام 2006 كانت محدودة الانتشار. وبعد الحرب الأهلية، استقبلت بيروت وكالات فنية عديدة في جلسات تصوير عنوانها "انتهت الحرب". أما الصور الّتي نقرأ فيها اليوم ابتسامات ولغة جسد تهزأ بآلام الانفجار، فلا أتردد بوضعها في خانة "مرض إجتماعي" (social pathology) أصيب به أشخاص فقدوا شعور التعاطف مع الآخر".

ويؤكد عطية أن السوشيل ميديا حافز لهذا السلوك الاجتماعي "من خلال صعود مفهوم المؤثر الاجتماعي (social influencer) الذي يستورده لبنان عبر السوشل ميديا. فبدون هذه المواقع، تنتفي أسباب التقاط الصورة وعرضها لحصد اللايكات وجذب المتابعين"، واصفاً أن الجيل الجديد يعيش "في "مجتمع اللايكات"، وهو ما رصدتُه بعد الانفجار الأخير حيث تظهر على تطبيق TikTok فيديوهات توثق للانفجار بكثافة تتجاوز بأشواط ما نجده على الفيسبوك أو إنستغرام الذي يستخدمه الأكبر سناً".

خدر وسادية وحب الحياة

من زاوية نفسيّة تحليليّة، تَعتبر البروفيسور في علم النفس رشا عمر تدمري أن أحد الأسباب تكمن في "العجز عن استيعاب حجم المعاناة الكامنة وراء الكارثة. فبعد متابعة أحداث الانفجار لما يزيد عن الأسبوعين، بدأ البعض يشعر بالملل من الأخبار الصادمة والمُتعِبة، وقد يقود ذلك جزئيًّا إلى "الخَدَر النفسي" (emotional numbness)، وهو حال يختبرها بعض الناس بعد التعرّض لموقف ضاغط في محاولةٍ لحماية النّفس من التعرّض للأذى مرّة أخرى. وهي عمليّة عقليّة وعاطفيّة لإغلاق المشاعر، وتسبّب عجزًا في الاستجابات العاطفيّة وفي التفاعل مع الموقف الصادم. وتتحوّل إلى أداة تكيّف تؤدّي إمّا إلى التجنّب أو الإنكار أو الانفصال عن الواقع، وتسمح مؤقتاً للمُضي قُدُمًا في الحياة. ويُعدّ اضطراب ما بعد الصدمة، أن الاكتئاب والقلق من أبرز الأسباب المؤديّة إلى الخدر العاطفي. وتُشير الدراسات إلى أنّه كلّما زادت الأخبار والإحصاءات المرتبطة بحجم الخسائر المترتّبة على كارثةٍ ما، أصبحنا أقلّ حساسيّة وتأثّرًا بما حدث".

وتتابع تدمري أن "البعض يتميّز بـالشخصيّة الساديّة، والتي لا تعني بالضرورة ارتكاب أعمال ساديّة جنسيّة، بل قد يُعبّر عنها الفرد من خلال التنمّر والسّلوك العدواني تجاه الأشخاص أو المواقف. وهو ما ينطبق على بعض الذين يشعرون بسعادة في التقاط صور أمام مكان الكارثة، فيُرسلون رسائل عدوانيّة لكل من ينزعج من هذا الفِعل، ويسعدون بردّات الفعل الغاضبة التي يُثيرونها لدى المنتقدين. ويعاني هؤلاء اضطراب السّلوك السادي العام، والذي يتمثّل في القسوة والتهوّر وفقدان التعاطف وتحجّر القلب. ويكون هؤلاء الأفراد مفتونين بالحروب والجرائم الشائنة".

من ناحية أخرى، تشير إلى "أن بعض الأشخاص قد يعانون من مشاعر الذنب، بحيث يتأمّلون في الانفجار ويسيطر عليهم سؤال: هل كان يمكن أن أمنع ما حدث للآخرين؟ إذ يرون أنّه كان ينبغي أن ينجو الجميع أو يموت الجميع. وتُسمّى هذه الحالة متلازمة الناجي ((Survivor Syndrom، وتقع عندما يعتقد الفرد أنّه مذنب بنجاته من حدث صادم ولم يستطع الآخرون ذلك. وتُعدّ هذه المتلازمة أيضًا أحد النتائج المترتّبة على اضطراب ما بعد الصدمة. فيتردد الشخص إلى مكان الحدث ويتأمّله وربما يلتقط صورًا له ليُثبت لنفسه أنّه كان أكبر من قدرته على مواجهته أو منع الأضرار".

وأخيرًا، تميل رشا تدمري إلى تبنّي رأي يعتبر "أن التقاط الصور مؤشر على أقوى غريزة تحرّك الإنسان، أي غريزة الحياة Eros، والتي تدفع الفرد لأن ينجو بتصرفاته من الأخطار ويبتعد عنها قدر الإمكان. فلا أحد يتمنّى الموت، لأنّنا ببساطة نريد الحياة، لأنّ غريزة الحياة فينا تتمنّى لنا الحياة. ولا يهم كيف نحيا وإذا ما كنّا سعداء أم لا، كل ما يهم غريزة الحياة هو أنّنا على قيد الحياة. إنّ الأشخاص الذين يتعلّقون الآن بغريزة الحياة يمرّون بالمرحلة الثالثة من الصّدمة، وهي مرحلة الاستشفاء". وتشرح ارتباط "هذا الأمر بالفروق الفرديّة بين الأشخاص على مستوى الاستجابة للضغوط، فالأفراد الصامدون يتصوّرون الخير في المستقبل، وهو نمط عيش علينا أن نحترمه وإن اختلف عن المألوف لدى أغلب الناس. فقد تكون هذه الصورة هي مصدر الإلهام للتصدّي لصعوبات لاحقة".

وتختم: "بالطبع، قد يصعب على الكثيرين تقبّل رؤية أفراد يلتقطون صورًا ويرسمون الابتسامة على وجوههم أمام مكان الكارثة الأليمة، ولا سيّما أهالي الضحايا والمفقودين، لا بل يترتّب على ذلك ظهور مشاعر الغضب والاستنكار، وهو ردّ فعل طبيعي من قِبَل من يعيش الصدمة إما بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. من هنا لا بدّ من التأكيد على ضرورة تعزيز المواطَنة لدى أفراد المجتمع على اختلاف معتقداتهم وانتماءاتهم، كون قيمة المواطنة تعزّز الوعي المجتمعي واحترام الآخر ومشاعره".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم