الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

قمّة في الوقاحة

بلال خريس
قمّة في الوقاحة
قمّة في الوقاحة
A+ A-

اعتاد اللبنانيون على جميع أنواع الأساليب القذرة التي اتّبعتها الطبقة الحاكمة في سنوات عمر هذا البلد المنحوس. تقاذفت الأجيال المتعاقبة هذا التقبّل مكرهة مستسلمة للوضع الراهن. إنّما ردة فعل السلطة على جريمة 4 آب التي أوصلتها إلى أعلى قمم الوقاحة بدون منازع، ضاعف داخل صدر الشعب الشعور بالغضب والحقد والقرف إلى مستويات لا مثيل لها. في حين لم تجف بعد دموع الأمهات أو تستعيد أكتاف المشيعين عافيتها، دأبت السلطة بجميع أطرافها على تحوير الفاجعة لمصلحتها، فتصرفت كالضحية وأطلقت الوعود والتعازي الكاذبة وراحت تتعامل مع الحادث كأنه عرضي، وعقدت الآمال على الذاكرة الجماعية لتدفنه كعادتها وتعود دورة الحياة المعهودة لتستأنف الطبقة الحاكمة تنفيذ أجندتها على ظهر النكبة. وهنا أساس المشكلة.

بعد أكثر من أسبوعين على الفاجعة، لم تحرّك الدولة ساكناً. انطلقت حلقات مسلسل الوقاحة فوراً بعد حصول الكارثة، فوعدت السلطة بإجراء تحقيق جدي وسريع وباكتشاف خيوط مهمة في غضون 5 أيام. فبالإضافة إلى التخلّف عن تحقيق هذا الوعد كما كان متوقعاً، غرقت السلطة مجدداً في رمال فسادها المتحركة ومنظومة المحاصصة فتأخر تحويل القضية إلى المجلس العدلي ومن ثم تسمية القاضي بسبب حسابات طائفية ضيّقة، كأن شيئاً لم يكن. وفي وسط زحمة النظريات والاستنتاجات، زعمت الرئاسة الأولى طلبها لصور أقمار إصطناعية من الرئيس الفرنسي قد تساهم في نفي أو تثبيت ضلوع جهات خارجية، ولكن "لهلق ما صار". حاولت من بعدها السلطة تنفيس غضب الرأي العام العارم من خلال رفع الغطاء والتضحية بموظفي الصف الثاني للمحاكمة ظنّاً منها أن ذلك سيشتت الأنظار عن مسؤولية أصحاب القرار الأساسيين الحاليين والسابقين، كأن شيئاً لم يكن. لهذا السبب اتفق الجميع على حكومة دياب ودفعوا نحو استقالتها بدون تردد لتنضم إلى قافلة أكباش المحرقة )على الرغم من تحمّلها جزءاً من المسؤولية) لا بل استُعمِلَت لتربيح الشعب جميلة بأنها سلطة مسؤولة أخلاقية تُحاسِب نفسها. استُكمِلَ مسلسل الوقاحة والإنكار والإجرام فقامت السلطة بالعبور فوق جثث الضحايا نحو السعي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تُعيدهم "كلن يعني كلن" إلى الحكم، كأن شيئاً لم يكن، فيجتمعون في السر والعلن ويصرحون بوقاحة أن خلاص لبنان وتخطيه للأزمة يتجسّد في حكومة جامعة. لم تتوقف المنظومة عند هذا الحد بل استمرت بتألّقها في التعاطي المزري للأزمة مطلقةً التهديدات لشعبٍ منكوب غاضب فقير جائع جُلّ ما يفعله هو الشتيمة أو التجمع ليعبّر عن رفضه لتدمير وطنه ومطالباً بأبسط حقوقه، لا بل تُحذّره من لحظات غضب قد لا تُحمد عقباها، كأن شيئاً لم يكن! وأسوأ ما في الأمر أنّه عوضاً عن التظاهر بتحمّل المسؤولية ولو كان تنكّراً خلف ادعاءات باطلة بالوقوف إلى جانب الشعب في محنته، خانتهم حنكتهم السياسية هذه المرة فارتأوا الغياب الكلي والطوعي عن مشاهد لملمة الأنقاض والجراح، ليزيدوا من الطين بلة. تُرِكَت الجمعيات المدنية لتقود عمليات المساعدة وحيدة في أجواء من التعاضد يُشهد لها، تُعبّر عن إرادة الشعب وقدرته على استلام زمام الأمور في عزّ الأزمات.

يرتقي إنفجار 4 آب إلى مصاف جرائم العصر في التاريخ الحديث لما له من أثر سيكولوجي مادي معنوي، لن تتمكن أي ذاكرة جماعية من طمس آثار هذا الحدث، فما بالك بالذاكرة اللبنانية التي تعيش حالة تمرّد قائمة على نبش جرائم الماضي وتحميلها اللوم في الوصول إلى الوضع الراهن؟! لا بل يجب أن تُوثَّق الذاكرة ارتكاب السلطة هذه الجريمة التي قضت على نصف العاصمة بما وبمن فيها. وإن لم تفلح محاولات إدانتها مباشرة بالوقوف وراء ما حصل، فإن الاستهتار في تعاملها مع تداعيات الانفجار كفيلة بإسقاط المنظومة كلها. أصبحت ضرورة التغيير ملحة أكثر من أي وقتٍ مضى لأن بالفعل ما بعد 4 آب ليس كما قبله.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم