الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

سيلفيا بلاث كتبت سيرة موتها في قصائد ورحلت

المصدر: النهار
نسرين بلوط
سيلفيا بلاث كتبت سيرة موتها في قصائد ورحلت
سيلفيا بلاث كتبت سيرة موتها في قصائد ورحلت
A+ A-

هناك من يأتي إلى الحياة بقصد الرحيل، وينهب من أحزانها حتى لحظات الاجتياح الذاتي للتَرَح، ويترنّح في مداد الأحزان بلا تؤدة، كما فعلت الكاتبة سيلفيا بلاث التي أنهت حياتها بمحض مشيئتها وكأنّها أودعت احتقانها المدقع بلون الموت الشاحب في راحِ قصائد ثملت من وجعها لتخلّدها، ومضت.

في مرحلةٍ من النضج الفكري المتبلور الذي خبرته عبر مراحل عمرها القصير، قالت بلاث: "في مرحلة نضج عميقة تمنيتُ ألّا أعي نصف ما أعي"، في تعبيرٍ صادق عن التصادم القائم في أعماقها بين الوعي والحقيقة، فهي تعي الحقيقة ولكنّها تتمنّى أن تنفيها من عقلها، وأن تتعلّق بأذيال السراب والخيال، ولذلك لُقّبت برائدة الشعر الاعترافي، الذي يعبّر عن انطباعاتٍ إنسانية وذاتية تدور حول "الأنا" في التعبير عن الصدمات والخيبات والكدمات العاطفية والأمراض النفسية. وقد بدأها الشاعر جون بيريمان الذي تسبّبت اعترافاته بعلاقة سابقة له قبل زواجه، ووصْف انفعالاتها الجنسية والعاطفية بطلاقه من زوجته، ثمّ اعتنق هذا النمطَ الشاعرُ روبرت لويل الذي تأثّرت به بلوث كثيراً.

في كتابها "أكثر من طريقةٍ لائقة للغرق"، الذي ترجمه سامر أبو هواش بأسلوبٍ محكم إلى العربية، ضمّت سيلفيا قصائدها في سلسلةٍ محكمة القيود من الكبت الذاتي الذي يتفجّر حمماً من الأحزان، وقد اختصر العنوان كلّ القصائد الواردة في مجموعتها، فالموت هو القائد والمسيِّر والمخيِّر لكلّ المفاصل الجوهرية فيها، وعلاقتها التي تلمّح بالغطس اللامُجدي في يمٍّ متلاطم الأحزان مع حبيبها وزوجها تيد هيوز والتي انتهت بطلاقهما قبل شهور من انتحارها، تتهاوى في هوّة الانسحاق الدامي تحت إبط الفراق. وقد قالت في وصف الحالة: "تدخل متشامخاً بهو قصري المهيب، تبعثر بثورات غضبك الجام أكاليل الثمر والعيدان المزهرة والطواويس الرائعة، وتمزق غشاء الحشمة الذي يصد الزوبعة ـ قد تهاوت الآن عمارة الجدارن البهية، وها هي الغربان تنعب فوق الخرائب الرهيبة. مصقع وهج عينيك العاصفتين اللتين فيهما يفرّ السحر كساحرة فزعة تغادر القصر حين تبزغ النهارات الحقيقية .ترسم الأنصاب المحطمة كتلاً من الصخر وبينما تقف منتصراً بمعطفك وياقتك، أمكث رابطة الجأش متدثرة بردائي الإغريقي، عاقدة شعري كامرأة إغريقية، عالقة في نظرتك السوداء وقد استحالت المسرحية تراجيدية بعد هذا البلاء العظيم؛ أي طقوس من الكلمات يمكن أن ترمم الخراب؟".

كانت علاقتها بهيوز مجال بحثٍ للحركات النسائية المدافعة عن حقوق المرأة، إذ رأت في إقدامها على الانتحار شجاعة نادرة لتعكس نموذج التعسّف الذكوري والمهيمن، رغم أنّ معاناة بلوث مع الكآبة بدأت قبل لقائها بزوجها بفترة طويلة، واحتوت في خلاياها ذاكرة الطفولة وحب الأب ورحيله ومآسي الحرب التي عاصرتها الكاتبة قبل رحيلها.

"هناك على الغصن اليابس العالي يجثم محدودباً غراب أسود يرتّب ويعيد ترتيب ريشه في المطر. يشعل المشهد في عيني، ولا أطلب في الطقس الطائش أكثر من هذا المشهد، لكن أدع الأوراق المنقطة تسقط كما هي بغير دهشة". هكذا تحترف الكاتبة اليأس بإقرار تام، واعترافٍ ضمني بالهزيمة دون أدنى اكتراثٍ لبارقة أمل. ترى الموت في الطبيعة وحتى في أوراقها التي تنسلّ من بين أصابع الشجر بلا أدنى مقاومة، وكأنّها تبلغنا بخبر انتحارها الآتي من خلال القصائد وتحجّم من قدر الحياة وأهميتها، في تعبيرٍ من إحدى قصائدها تقول: "أنا أحجية بتسعة مقاطع لفظية"، ربما اختارت هذا الرقم "تسعة" الذي عبّر عنه الشاعر دانتي في ملحمته الكوميديا الإلهية كرمزٍ للحبيبة.

سيلفيا بلاث شاعرة اختارت الموت في اليقظة قبل العدم، وكتبت قصيدة الموت مختصرة حياتها وتوقعاتها الآتية في شتّى أنماط الحياة في كلماتٍ تتمرّغ في لازورد الوجع القاني:

مُتهادِيةٌ على صَفحةِ البحر اللازورديِّ

تتقدّمُ بوارِجُ حربيةٌ داخلَ زُجاجاتٍ

كُلٌ مِنها تَحمِلُ برقيةً موجهةً إليَّ .

"دَمِّري مِرآتَكِ وتجنَّبي المآسي"،

تشدو الأولى: "أقيمي على جَزيرةٍ صَامِتةٍ

حيثُ المياهُ تمحو آثارَ الأقدامِ".

الثانيةُ تُغَني: "لا تستقبلي أيَّ زير نِساءٍ رحَّالةٍ

يُريدُ أن يلهو في المرفأ حتى الفَجرِ،

إذ ثمةَ في قَدرِكِ غَازٍ ".

الثَالثةُ تصرخُ بينما كُلُّ السُفنِ الأخرى تَغرقُ:

هُنالِكَ أكثرُ مِن طَريقةٍ لائقةٍ للغرق".

٢.

فوقَ جزيرتي

حَشدٌ مِنَ النوارسِ اللماعةِ

ينقضُّ على عيني البحَّارِ المِقدامِ

الواقِعِ تحتَ بَللٍ وجوعٍ؛

الموجَةُ العملاقةُ التي تَقتحِمُ الأرضَ،

مُفترِسةً الحدائِقَ الخضراءَ بوصةً بوصةً،

الدَمُ يجري مُتسلسلاً عَبرَ أصابعِ اليدِ

التي تَرفعُ الغريقَ لتُسمّهِ قِديساً.

عالياً، نَورسٌ طويلٌ يَقفُ في الريحِ،

مُعلناً بعدَ أن حلَّقتِ الطيورُ المُتخمة:

"هُنالِكَ أكثرُ مِن طَريقةٍ لائقةٍ للغرق".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم