سامراء من أرض قفراء إلى عاصمة خضراء

 من دون شك أن لسامراء العباسية قصة حقيقية حيث نشأت هذه المدينة بوقت قياسي وعلى شكل مراحل، ابتداء من الجنوب إلى الشمال. ابتداء من أرض الطيرهان صعوداً إلى قضاء الدور شمال مدينة سامراء الحالية 30كم.

الخليفة هارون الرشيد في بادئ الأمر بنى فيها قصراً لاستراحته حينما كان متخذاً جنوب مدينة سامراء الحالية متنزهاً له ولحاشيته. في خضم الصراعات الاجتماعية والسياسية في عهد المعتصم كان الصراع على أشده بين أهالي مدينة بغداد والجنود الاتراك الذين عاثوا فيها قتلاً وظلماً. فقرر المعتصم الخروج من بغداد وإيجاد مقر بديل له، فنزل في جنوب سامراء وقرر الاستقرار هناك. وبما أن واقع المنطقة في جنوب سامراء وتقاسيمها الجغرافية تصلح للاستقرار كونها محصنة بشكل طبيعي. فمن جهة الشمال الشرقي نهر القاطول العلوي، ومن جهة الجنوب نهر القاطول السفلي، ومن جهة الغرب نهر دجلة.

الجذور التاريخية:

إن موقع مدينة سامراء المقدسة كان مركزاً حضرياً قديماً جداً.وكما وصفها الجغرافيون، فإن موقع سامراء كان حافلاً بالمراكز الحضارية أغلبها قرى زراعية غنّاء وعامرة وآهلة بالسكان.إضافة إلى ذلك، فإن الأهمية التجارية لا تقل شأناً، فكانت ممراً برياً وممراً نهرياً مهماً لكل قوافل التجارة عبر الأزمان الغابرة. وكان من أهم الطرق المشهورة طريق المشرق الذي يربط سامراء بقرية دكسره الملك، وهي قرية عامرة تقع على طريق خراسان القريبة من شهربان. وهنالك طريق بري آخر يربط مدينة سامراء المقدسة بمدينة واسط، إذ يمر بعكبرة ثم بغداد ويتوجه إلى المدائن.

ولم يكن اختيار المعتصم لموقع سامراء اختياراً عابراً بل جاء نتيجة مواصفات عالية تصلح لأن تكون مركزاً لحكمة وإدارة العالم من هذا المكان، نظراً لتوافر مصادر المياه وممر تجاري مهم، إضافة إلى ذلك طيب هوائها. واستقر المعتصم في قصر أبية، وشرع في تخطيط مدينته الجديدة، فشيد قصراً لة، وشُيدت بيوت رجال الحاشية وقادة الجيش، وبُنيت الأسواق .(1) .

المساهمون في بناء العاصمة الجديدة:

بعد أن قرر الخليفة المعتصم بناء العاصمة الجديدة لحكمة، كتب إلى الحرفيين والعمال والبنائين في كافة الصنوف وسائر الصناعات.(2)

وقد جمع كل الإمكانيات المتاحة في الخلافة الاسلامية للإسهام في بناء عاصمته الجديدة على وفق الأسس الحضارية والعمرانية التي أسهمت بها خلافته آنذاك. ولهذا ظهرت العاصمة بأبهى وأنصع صورة من التخطيط والبناء والزخرفة والنقوش. وما زاد في رونقها وجمالها أن الخليفة استخدم مواد البناء المتاحة في دولتة.

فقد حمل الساج وسائر الخشب من البصرة وبغداد، وسائر سواد العراق. إضافة إلى أنطاكية وسواحل الشام. كما جلب الرخام من اللاذقية بعد أن بنى مصانع لها هناك.(3)

تخطيط المدينة:

قدّم اليعقوبي وصفاً دقيقاً وشاملاً لتخطيط المدينة، ويظهر من خلال العمق الحضاري والمستوى العمراني الواضح الذي وصلت إلية الخلافة الإسلامية. فالخلفاء لم يكونوا مجرد قادة يحكمون بحسب أهوائهم وأمزجتهم، بعيدين كل البعد من مظاهر الحضارة والمدنية، فقد كانوا أصحاب نظرة ثاقبة وذكاء لا نظير له، وإدراك عميق لمتطلبات الحياة بأوجهها المختلفة.

ولهذا اختاروا المواضع التي تليق بمقام دولتهم على وفق تصورات وتخيلات حضارية لكي تكون بالمستوى الذي وصلت إلية دولتهم في الرقي العلمي والفكري والإبداع الإنساني. (4)

فقد أفرد المعتصم في سامراء قطائع الاتراك عن قطائع الناس جميعاً حتى لا يواجه مشكلة مثلما حدث له في بغداد. وجعل الاتراك معزولين لا يختلطون بقوم من المدنيين ولا يجاورهم إلا الفراعنة (وهي فرقة عسكرية في الجيش العباسي) (5)

وزيادة في الحيطة والحذر، فقد جعل كل قائد من قادة الأتراك يسكن في منطقة معينة، وكانت التقسيمات لقطائع الأتراك على النحو التالي:

أ‌- مقاطعة القائد إشناس:

تقع مقاطعة القائد التركي إشناس شمال مدينة سامراء الحالية بمسافة 7كم، وهذه المقاطعة ضمن منطقة كرخ سامراء، وقد أمر الخليفة المعتصم إشناس بأن يبني الدور والاسواق والمساجد ضمن مقاطعته، كما ضم إشناس عدداً من القادة الاتراك مع عوائلهم وأسكنهم في تلك المقاطعة. كما أمر الخليفة المعتصم إشناس ببناء سور محكم يحيط بمقاطعته كي لا يختلط مع أبناء العامة.

ب – مقاطعة القائد خاقان بن عرطوج وأصحابه:

تقع هذه المقاطعة جنوب دار الخليفة حالياً وشمال مدينة سامراء بمسافة 1كم، وأمره الخليفة المعتصم بضم أصحابه ومنعهم من الاختلاط بالناس العامة.

ج – مقاطعة القائد وصيف:

تقع هذه المقاطعة حالياً جنوب شرق سامراء الحالية بمسافه 500م - 1كم، وبنى حائطاً ضخماً حول مقاطعته أسماه (حائط الحير). وقد تميزت جميع المقاطعات التي بناها القادة الاتراك بأنها معزولة وبعيدة عن الأسواق العامة (6).

ح – مقاطعة القائد إفشين حيدر بن كأوس الأسروشني:

تقع هذه المقاطعة إلى الجهة الغربية من مرقد الام اميين العسكريين علية السلام والمحصورة على خط جرف نهر دجلة، تمتد من رأس حي الإعمار حاليا (*) وتنتهي عند مصب وادي الموح جنوباً.

د – مقاطعة القائد الحسن بن سهل:

تقع مقاطعة القائد الحسن بن سهل بين مقاطعة الافشين وبين دار الخليفة، وتبدأ من نهاية مقاطعة القائد افشين شمالاً وتنتهي إلى جنوب دار الخليفة محاذية لنهر دجلة. بعد افتتاح سد سامراء سنة 1956 أصبحت هذه المقاطعة من ضمن المساحات التي تم إغراقها بمياه نهر دجلة ولم يبقَ منها سوى المرتفعات المحاذية لنهر دجلة الحالي.

خ – كما تم توزيع مقاطعات منتظمة ما بين كرخ سامراء وصدر الرصاصي شمالاً وشرقاً، وبنى لهم الدور والأسواق والمساجد ضمن كل مقاطعة، وسماها بالدور.

و – مقاطعة يحيى بن معاذ

تقع هذه المقاطعة على جانبي الشارع الأعظم من جهته الغربية والشرقية، كما تم بناء مقاطعات صغيرة على الشوارع الفرعية على جانبي شارع (ابو احمد بن الرشيد) نزولا إلى نهر دجلة. هذا في الجهة الغربية من الشارع الاعظم. أما في الجهة الشرقية من الشارع الاعظم فهناك مقاطعات سكنية خصصها الخليفة المعتصم للقادة الخرسانيين الذين شكلوا أعداداً كبيرة في الجيش العربي وأغلبهم من القادة.

ق – مقاطعة العابس بن علي ومقاطعة عبدالوهاب بن علي بن المهدي، وتقع هاتان المقاطعتان شرق الشارع الاعظم مما يلي مقاطعة الخرسانيين.

الشوارع الرئيسية والفرعية في سر من رأى.

1- الشارع الاعظم:

وهو الشارع المعروف بالسريجة ممتداً من المطيرة إلى الوادي المعروف (وادي اسحق بن ابراهيم) لأن اسحاق بن ابراهيم انتقل من قطيعته في أيام المتوكل فبنى على رأس الوادي. واتسع في البناء ثم قطيعة إسحاق بن يحيى بن معاذ. (7)

2- شارع بن ابي احمد:

وهو ابو احمد بن الرشيد، يبدأ هذا الشارع من جهة الرق من دار الطبيب نختيشوع والتي بناها في ايام المتوكل.

3- شارع الحير الاول:

ويبدأ هذا الشارع من المشرق إلى وادي ابراهيم بن رياح.

4- شارع برغامش التركي:

ويمتد من الميرة جنوباً إلى مقاطعة الافشين شمالاً وينتهي إلى وادي ابراهيم بن رياح

5- شارع صالح العباسي:

ويُعرف بشارع العسكر، وفية قطائع الاتراك والفراغنة، ويمتد من المطيرة إلى دار صالح العباسي على رأس وادي ابراهيم بن رياح.

6- شارع الحير الجديد:

يبدأ هذا الشارع من حائط الحير جنوب شرق سامراء وينتهي بالقرب من الشارع الاعظم.

7- شارع الخليج:

يقع هذا الشارع بمحاذاة نهر دجلة وهو خاص بالتجارة النهرية حيث يختص هذا الشارع بالتجارة والتجار الذين يتوافدون من شتى المناطق من بغداد والبصرة والاحواز إضافة إلى الموصل وما جاورها. وفي هذا الشارع يسكن المغاربة الذين يعملون في هذا الميناء التجاري المهم. (8)

إحياء الجانب الغربي من سر من رأى

لما أتم الخليفة المعتصم بناء مدينة سر من رأى، انتقل إلى الجانب الغربي منة ليرى ويقدّر الامكانية لإنشاء العمائر والبساتين في الجانب الغربي، ودراسة وضع الجانب الغربي من المدينة بشكل دقيق ووضع الخطط والتفاصيل لكل المرافق والابنية والجداول الخاصة بالري لإحياء تلك المنطقة القفراء والصحراوية.

ولقد شجعت فكرة إحياء الجانب الغربي نظراً لوجود آثار نهر الاسحاقي المندرس وتاريخ إنشاء هذا النهر موغل في القدم قبل العصر الاسلامي. حيث أقدم المعتصم بدفع الفرق الهندسية المعمارية والفرق الخاصة بهندسة الري من أمكانية إحياء هذا النهر العظيم. ووضع جدولاً زمنياً محدداً لإتمام المهمة. وتم له ذلك .

وعقد جسراً إلى الجانب الغربي من دجلة، فأنشأ العمارات والبساتين، وحفر الانهار والجداول، وحمل النخل من بغداد والبصرة وسائر السواد. وحُملت الغروس من الجزيرة والشام وخراسان. فكثرت المياه في هذه

العمارات وصلح النخل وثبتت الاشجار وحسنت الفواكه. وقد نشأت خمس قرى كبيرة على طول نهر الاسحاقي على الجانب الغربي منه، وسبعة قرى على الجانب الشرقي منه فكانت البساتين الشاسعة والحقول الزراعية عظيمة. (9)

ختاماً:

إن مدينة سامراء من أعجب مدن الدنيا، وعاصمة من أغرب عواصم العالم أجمع. بناها الخليفة المعتصم في أرض قفرٍ موحشة، واتخذها عاصمة لبني العباس. ما كان يُرى في أنهار تلك الارض اليباب سوى قوافل السراب وهي تتعانق على مد البصر، وما كان يسمع في لياليها غير نباح الكلاب وعواء الذئاب، ولم يكن هناك سوى أديرة للنصارى تقبع بين الآكام، متناثرة هنا وهناك، وفجأة تتحول تلك البيداء إلى مدينة من أجمل مدن الدنيا، وعاصمة من أوسع العواصم التي نشأت في تلك الحقبة، وتتدفق المياه من نهر دجلة فتكثر الجنان والحدائق الغناء ويطيب الهواء،

وبمثل السرعة التي نشأت فيها وازدهرت، تلاشت فجأة واندثرت بعد نقل الخلافة إلى بغداد في سنة 279 هجرية.

----------------------------------------------------------

الهوامش

------------------------------------

(*) حدود حي الاعمار تبدأ من مدخل قيادة عمليات سامراء حالياً وينتهي بحي البلدية جنوباً، وامتداداً إلى كراج بلدية سامراء بالقرب من الحي الصناعي بمحاذاة نهر دجلة. وقد كتب الاستاذ هرسفلد نتائج حفرياته عن هذه المنطقة والتي كشف عن أجزاء منها بأنها من المناطق الاثرية المهمة كونها تمتد إلى ما قبل الاسلام، وقد عثر على العديد من القبور التي تعود إلى عصور ما قبل الاسلام وهي لبعض النصارى الذين كانوا يقطنون في هذه المناطق، كما عثر على العديد من المعابد والاديرة الخاصة بهم. ( انظر. حفريات سامراء ج 1 ص 115 غير مترجم)

(7) ذبيح الله المحلاتي، مآثر الكبراء في تاريخ سامراء، ج الاول، ص 48 – 49

(1) اليعقوبي: البلدان، ص 85

(2) اليعقوبي: البلدان ص 58 – 59

(3) بهيجة كامل: سامراء في المصادر الجغرافية ص 50

(4) حسن الشكرجي: القصور العباسية في سامراء. بحث غير منشور ص 7

(5) أنظر مقال (مدينة المعتصم على القاطول ) ناجي الاصيل، مجلة سومر، المجلد الثالث، الجزء الثاني، 1947، ص 160 – 170

(6) اليعقوبي: البلدان ص 85

(8) بهيجة كامل عبداللطيف، سامراء في المصادر الجغرافية.

(9) صالح احمد العلي. سامراء دراسة في النشأة والبنية السكانية.