الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"البيت" لنادر سراج: عودة إلى الوراء لتنظيم سرعة دوراننا

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
"البيت" لنادر سراج: عودة إلى الوراء لتنظيم سرعة دوراننا
"البيت" لنادر سراج: عودة إلى الوراء لتنظيم سرعة دوراننا
A+ A-

نادر سراج ابن بيروت البارّ، أستاذ جامعي وكاتب وباحث ومترجم. لمع اسمه في مجال الدراسات العلميّة، بالأخصّ تلك المتّصلة بدراسة الشعارات التي اجتاحت عالمنا العربي والشرق أوسطي خلال "الربيع العربي" المزعوم، أو المتوهَّم، أو المجهَض... تبعًا لما اجتمع فيه من تناقض في المضمون والمعنى والمحفِّزات والنتائج.

كان لي حظّ اللقاء بالباحث سراج والعمل معه خلال دراستي الجامعيّة البحثيّة، حين أرشدني إليه أحد أساتذتي الجامعيّين (د. علي ناصر الدين)، لما له من باع طويل في مجال دراسة الصورة، وكون موضوع بحثي -في حينه- ارتبط بالصورة وتقدُّمِها على الكلمة، أو مزاحمتها لها، في زمن العولمة والواقع الجديد لعصرنا.

وقفة مع "أفندي الغلغول"

وقد تسنّى لي حضور لقاءين حول كتابين لـلباحث سراج: الأوّل في 24 نيسان 2017، تناول كتابه القيّم "أفندي الغلغول"، الذي لا أغالي إن وصفته بتحفة بين الكتب، أكان من حيث الشكلُ أم من حيث المضمون الذي امتاز بأسلوبه السردي المندرج ضمن أدب السيرة، إضافة الى تعمّقه في الدراسة والبحث والتحليل، مع عنايته بصور نادرة لبيروت القديمة في مرحلة سابقة من تاريخها، وجَوْدة في اختيار الغلاف ونوع الورق، وتميُّز في حجم الكتاب وألوانه، بالأخص صورة الغلاف العائدة لأفندي الغلغول نفسه، وقد اختلفت وجهات النظر حولها، بين مؤيّد لظهورها بالألوان الصارخة وميّال لعرضها بالأبيض والأسود. وقد كان لي مقال في هذا الكتاب -لشدّة ما أثّر بي وأمتعني- نُشر في حينه في جريدة الأنوار، قبل احتجابها، بتاريخ 20 حزيران 2017، تحت عنوان: الباحث نادر سراج في كتابه أفندي الغلغول يضيء على وجه بارز من وجوه بيروت.

وأختارُ من جميل أصداء تلك المقالة مقتطفًا من تعليق للدكتور مصطفى الحلوة، اختصرَ فيه قراءتي بقوله: "عزيزتي مارلين... أعرب لك عن تثميني قراءتك حول كتاب "أفندي الغلغول"،... أفلحتِ في إبراز الرسالة التي ابتغاها الكاتب، فمن خلال سيرة جدِّ والدته لأمه استطاع أن يأخذنا إلى سيرة مدينة في عصر التحوّلات، بدءًا من الهزيع الأخير للحقبة العثمانية، مرورًا بالحرب العالميّة الاولى، ونشوء الكيان اللبناني. وبكلمة فقد كان لك أن تقبضي على المفاصل الأساسيّة لهذا الكتاب القيِّم، من لدن باحث لساني وانتروبولوجي... وهذه القماشة من الباحثين، من أمثال د. نادر سراج ، بتنا نفتقر إليها في جامعتنا الوطنيّة...".

البيت في السوسيولوجيا واللغة والعمران

بعد هذه اللمحة عن "أفندي الغلغول" لنادر سراج، أعود إلى موضوع حديثي اليوم، أعني كتاب سراج المعنوَن البيت-السوسيولوجيا واللغة والعمران-دراسة لسانية تطبيقية؛ وقد تسنّى لي -كما سبقت الإشارة- أن أحضر لقاء حول هذا الكتاب، دَعى إليه "تجمّع الباحثات اللبنانيّات"، في جلسته السابعة ضمن نشاط نص وحوار، بتاريخ 9 تشرين الأول 2018، حيث "عرض [سراج] تجربته البحثيّة والتأليفيّة في مضمار ربط اللسان بالعمران وبالحراك الاجتماعي عبر تفكيك مفردات خطاب السكن والمبيت والاستقرار في الاستخدام العام. وتكلّم (...) عن (كذا) أولوية التحقيق الميداني في هذا المؤلف؛ كما ركّز على العودة إلى الكتب التراثية والقواميس لرصد ومقارنة وجوه استخدام المفردات السَكَنيّة من قِبَل الجمهور." وفق ملخّص تجمّع الباحثات اللبنانيات للّقاء (نقلًا عن موقع BAHITHAT/باحثات).

أعود إلى كتاب "البيت" لـ سراج، هذا الكتاب الذي يمتاز -عدا عن مضمونه البحثي الفريد- بالجَودة والأناقة، من حيث العنايةُ بإخراجه الفنّي، وغناه بالصور الملوّنة، وترتيبُ هوامشه، ما يسهّل الاطّلاع على مضمونه، ويريح نظرَ القارئ بطريقة تقسيمه وتبويبه وعرضه. إضافة إلى كبر حجمه، ولو أنّ هذا الحجم بات نادرَ الاستخدام، بسبب العصرِ ومتطلّباته، وعزوفِ معظم القرّاء عن قراءة الكتب المطوّلة والأبحاث، وميلهم إلى الكتب الصغيرة الحجم التي لا تحتاج لكثير من الوقت لإنجاز قراءتها، ويمكن حملها في الجيب أو وضعها في حقيبة اليد.

هل يفرض وباء كورونا بُعدًا جديدًا للبيت؟!

أُضيء من جديد على هذا الكتاب الصادر في طبعته الأولى سنة 2017، لما لفهوم "البيت" اليوم من بُعد جديد، يُضاف إلى ما عرضه الكتاب حول مفهموم "البيت" تاريخيًّا واجتماعيًّا، وحول واقعه العمراني والأثري. عنيت البُعد الذي فرضه الواقع المستجدّ في عالمنا، على أثر ظهور فيروس كورونا الذي استطاع، على صغره وتخفّيه واحتجابه (لانعدام إمكانيّة رؤيته بالعين المجرّدة أو تلمّسه أو شمّه أو تذوّقه أو سماع صوته)، أقول، بالرغم من كلّ ذلك، استطاع الوباء، بصفته الشبحيّة هذه، أن يسيطر على العالم أجمع، نفسيًّا وجسديًّا، حدّ التمكّن من ضرب الجهاز التنفسيّ، والقضاء على حياة الكثيرين. وكانت النتيجة الحتميّة لهذه الحرب معه، اللجوء إلى البيوت، والاعتكاف فيها، والحرص على عدم الخروج منها إلا للضرورة القصوى، خوفًا من هجوم شبح الكورونا أو الـCOVID 19، وتمكّنه منهم!

قد يكون عالمنا اليوم بحاجة، بعد ما أصابه من جنون العصر وسرعته، إلى ما هو أكثر جنونًا منه، ليتمكّن من فرض السيطرة على فائض السرعة -إن صحَّ التعبير- الذي يدمّر حياة أهل البيت الواحد، ويشرذمهم، فيجعلهم غرباء الواحد منهم عن الآخر، بعدما أباح كلَّ مستور، وفضح كلّ مكتوم، وقضى على الخصوصيّة. إذًا، احتاج الناسُ في عالمنا إلى ما يعيدهم إلى النمط الطبيعيّ للعيش، ضمن بيت وأسرة، يُرجعهم بالزمن قليلا الى الوراء، فيستعيدون شيئًا من عاداتهم القديمة، التي تكاد تصبح نسيًا منسيًّا؛ ويندرج ضمن هذه المنسيّات أو المُغيَّبات، الكتاب. هذا الكتاب الذي بات منبوذًا، إذ لا نجد الوقت الكافي نخصّصه لتصفّحه، ونُحرَم بالتالي من جماليّاته.

ها هو اليوم الوقت قد حان لتنظيم سرعة دوراننا، ممسكين بوعي وإدراك دفّة حياتنا، مخصّصين بعض الوقت لذواتنا، لعائلاتنا. من هنا الدعوة للتزوّد قدر الإمكان من المعارف التي تقدّمها الكتب. وقد يكون كتاب "البيت" لـ نادر سراج واحدًا من الكتب القيّمة التي تُظهر لنا، بالدليل والحجّة، أنّ البيت كان على مدى التاريخ، وسيبقى، الملجأ الآمن للإنسان.

من فوائد الوباء الذي أصاب عالمنا اليوم -إن حقَّ لنا أن نعدّدَ فوائد ناتجة عنه- أنّه استطاع أن يوقف جرينا اللاهث، فنعطي أنفسنا حقّ التأمّل في مسيرتنا، وتقييم خطواتنا ومسلكنا، للعودة بضمير حيّ إلى كلّ ما فيه منفعتنا وسعادتنا، وأولّه البيت والكتاب، المنبوذَين الأساسيَّين اللذين أخرجناهما طويلا من حساباتنا.

"البيت" لـ نادر سراج، واحةٌ تجمع حول ضفافها شجرات باسقات يمكننا التنعّم بظلالها طويلا، متأمّلين معه في كلِّ التسميات التي حظيت بها أماكن سكن الإنسان، ومصطلحاتِها في لغة الضاد، والمُعطياتِ اللغّوية المتّصلة بها، والنماذجِ العربية لها، ودورِها في الخطابَين السياسي والإعلامي. "البيت" كتابٌ يعدنا بالكثير من المتعة في اكتشاف كيفيّة استخدام الإنسان لمصطلحات البيت العديدة، وابتكاره المستمر لجديدٍ يضيفه إليها، وهنا يشرح لنا سراج دوافعنا وأسبابنا للقيام بذلك، بشكل علميّ مقنع.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم