الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

مسرح - "أنتيغون" جان أنوي على مسرح الـ"كوميدي فرانسيز" المخرج مارك باكين يُعصّرن البطلة ويؤجّج فينا أسئلة السياسة

محمد سيف
A+ A-

ليست مسرحية "أنتيغون" للكاتب الفرنسي جان أنوي مجرد كتابة بسيطة لنص سوفوكليس. ففي العام 1944، اثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، وفي باريس التي كانت مسرحا لعمليات الاعتقال، والمنشورات، والخوف والهجمات والعنف، قام كل من جون أنوي ومدير مسرح "الأتلييه" أندره باراسك، بخطوة جريئة، من خلال تقديم شبح أنتيغون، بجعله يأتي فجأة ليجسد الأمل في جيل كامل، ويصبح رمزا لجميع أنواع المقاومة.


تحت مظهر بسيط وواضح، يأتي نص أنوي، ليكشف الغطاء عن بساطة ممتنعة، وعن تعقيد كبير يحمل مشاعر تصور عذابات العالم، فتنشأ لدينا ثورة رهيبة وعنيفة، على عكس ما يمكن أن نتوقع عند قراءتها، ولا سيما ان أنتيجون تضعنا مباشرة أمام أنفسنا، واسئلتنا ومثلنا العليا. أنتيغون أنوي، ليست بطلة مسرحية قادمة من أروقة التاريخ، حبيسة ماضيها، والقوى الإلهية، وإنما فتاة شابة ترفض أن يتعفن جسد شقيقها المعروض تحت أشعة الشمس. إنها تجسيد لكل ثورات العالم. فهي تأخذ على عاتقها مسؤولية تاريخنا، وثوراتنا، وأفعالنا المعاصرة الخاصة.


القصة
تعود أنتيغون بعد نفي ابيها الملك اوديب خارج مملكته، لتجد ان أخويها قد تقاتلا حتى الموت على خلافة العرش، فتدبّ الفوضى. خالها كريون يتولى الحكم ويصبح ملكا على طيبة، ويكون احد قراراته، تنظيم جنازة ملكية مهيبة للأول ايتيوكل، وحرمان الثاني بيوليكس، من الدفن وترك جثته تتعفن في العراء، عرضة للطيور الجارحة. اختار كريون واحداً منهما لجعله بطلا في اعين الناس، ومن الثاني مذنبا يستحق العقاب، علما أن الاثنين كانا على خطأ في تناحرهما على العرش.
أنتيغون تتحدى الحظر، وتتمرد على سلطة الرجال، بنبش قبر أخيها بأظفارها، فيقبض الحرس عليها وتمثل أمام خالها الملك، الذي يحاول ان يثنيها عن رأيها، وينقذها من شدة العقاب الذي يمكن أن يصدر في حقها، لكنها ترفض بشدة سعادة العفو الذي يعدها به خالها. هكذا يصدر الحكم، الذي يثير ميكانيكية المأساة. فلا شيء، ولا احد يستطيع أن يثني كريون عن حكمه. هكذا تنتهي المسرحية بمقتل أنتيغون، وانتحار حبيبها ايمون، بن كريون، حزنا عليها.
تنتمي "أنتيغون" أنوي إلى المسرحيات التاريخية الفرنسية، وتجسد بطلتها المقاومة، في حين يجسد كريون عقل الدولة، والسؤال الذي يمكن طرحه، إلى أي جهة تميل المسرحية؟ هذا السؤال قسم آراء النقاد عند تقديمها آنذاك، وتبقى الإجابة عنه صعبة حتى يومنا هذا. في تقديمها للمسرحية هذه السنة، لم تكن مهمة المخرج الفرنسي مارك باكين على مسرح الكوميدي فرانسيز، حل الخلاف الذي أثارته المسرحية آنذاك وتثيره اليوم، إنما كشف الغطاء عن النقاش والجدل بأكبر قدر ممكن. لم يعتمد الإخراج، على تاريخية المسرحية، وإنما يقدمها كما لو أنها منا ولنا، تشاركنا، ونشاركها على الفور، مثل أداة للفكر.
تدافع أنتيغون، بشكل عام، عن قانون الدم، والأرض، والآلهة، ضد القانون الوضعي للمدينة والمواطنين الذين يدعمهم كريون. تقوم بفعل فردي يذيب العلاقات الاجتماعية، ويصبح رمزا ورؤية مسبقة للحقوق المدنية. ثم ألا تمثل أنتيغون اليوم المقاومة المعاصرة للاضطهاد السياسي، سواء أكان عنصريا، أم طائفيا، أم متحيزا ضد المرأة؟ هذه الكتابة الجديدة للمسرحية تجعل أنتيغون شخصية تعارض بطفولتها النقية، كريون الملك، الذي يرمز إلى فساد البالغين وإيديولوجيا الدولة. هكذا نستطيع القول إن الأزمة العالمية التي ضربت المهد التاريخي للأسطورة قامت بتحديث هذه البلاغة المسرحية. تدعونا المسرحية لمناقشة أنفسنا، من خلال مشاعرها المسيلة للدموع نفسها. خلف الجدل القائم بين كريون الخال، وأنتيغون، يلوح سؤال آخر، يطالبنا بالتوقف عنده. يتساءل أنوي من خلال تقديمه شخصية كريون وحراسه، في نهاية المطاف حول ماهية هذه المهمة الغريبة التي تقود الرجال لارتكاب اشنع المعاصي واكثرها بشاعة. تتطرق المسرحية في شكلها ومضمونها المعاصرين إلى السياسة التي يعتبرها كريون مهنة، بالمعنى المادي والمبتذل للكلمة. ولا بد من القيام بها، مثلما يدعي الكثير من الساسة. وإذا كان حكم المدينة شيئاً آخر غير المهنة، فماذا عساه يكون؟ هذه هي الأسئلة التي تحملها المسرحية من خلال مشاعرها التي تستعير طفولة الشخصيات. وهذه هي الرغبة من الإخراج الذي يحاول أن يخدمها ويوفر لها الشفافية على امتداد العرض.
الشيء الأكثر تفردا الذي يمكن اكتشافه في هذا العرض، أن أنتيغون لا تتصرف نيابة عن الآلهة، فهي تؤكد عندما يطلب منها خالها كريون أن تتعقل، وأن ترجع عن قرارها: "إما الكل وإما لا شيء". الشعب في نص سوفوكليس، يصرخ عند بوابة القصر من أجل انقاذ الفتاة الشابة من عقاب الموت المحتم، في حين أنه في مسرحية أنوي، يصرخ ويطالب بموتها. تنقلب الأسطورة من أجل افساح المجال لمزيد من القسوة المألوفة، وجعل أنتيغون شخصية تتجسد في حداثتنا. الخوف يسكنها، مثل سائر الشخصيات الأخرى والبشر أيضا. الطريق نحو الموت ليس بالأمر السهل لها ولنا، وعلى الرغم مما يبدو عليها من تعثر وتردد على الأقل مرتين في المسرحية، تبقى أنتيغون طفلة تطمح لأن تظل نقية إزاء أفكارها ومثلها. ترفض الدخول في عالم الكبار وألاعيبه، وترفض أن تكون ملوثة في هذا العالم الذي يؤمن بالحلول الوسط. قوة المسرحية أيضا تكمن في تقاطعها مع المأساة القديمة، كما لو أن المؤلف سعى بشكل قصدي إلى تفجير الأسطورة، وانتهاكها.
السينوغرافيا بسيطة جدا: خشبة مسرح عارية تقريبا، وخالية إلا من أربعة كراس، وحائط متفاوت العمق، بثلاثة أبواب تفتح وتغلق. كأن السينوغرافيا تريد التزام تعليمات انوي المدونة في نصه. أنتيغون قريبة في شكلها من مظهر صبي، شعرها قصير، وترتدي بدلة عمل تحتها قميص، وهذا ما يبعدها عن أنوثتها الطبيعية. كريون يرتدي حلة حديثة تذكّرنا بالزي الرسمي للضباط الألمان، وبعض رجالات عصابة المافيا. وكل هذا لتذكيرنا بأن "أنتيغون" أنوي أنجزت أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا. تبدو أنتيغون في العرض، مثل فتاة برية غاضبة، ورافضة للحياة، على الرغم من محاولات كريون الذي صار يعوم في التسوية، مذ قال "نعم" للواجبات والالتزامات التي تترتب عليها، ولم يعد يملك الخيار، فهو "ملك أمام القانون وليس بعده"، ولا سيما ان إبنة أخيه اختارت عدم الهروب والتملص من لا معقولية الرجال والمجتمع، حينما اختارت أن تموت هنا.
إخراج المسرحية وتمثيلها، يعتبران مغامرة محفوفة، إذ لا بد أن يتوفر فيهما الهشاشة والقوة، في آن واحد، لكي تأخذ هذه المسرحية، شكلا وجسدا مؤكدين. نعلم ان أنتيغون ليست مراهقة، وأنها فقدت براءتها عندما اختارت معارضة النظام القائم، متبعةً هذا الذي تعتقد انه حق وعدل، حتى لو كان فعلها بسيطا، عندما غطت جسد أخيها بالتراب. فهي ليست قطة برية، وإنما نمرة. ولم تختر أن تموت، بقدر ما رفضت العيش في مجتمع تحتقر قوانينه. هذا التصرف ليس نزوة من نزوات طفلة مدللة، وإنما الفعل الذي يبدو لها عادلا ومشرفا، وهي على استعداد لأن تدفع الثمن من أجل ذلك. كريون، في المقابل، رجل موثوق به تماما، راع لأسرته، لكنه يضطر للذهاب إلى أبعد ما يكون في منطقه العنيد، متجاوزا نفسه من خلال صرامة القانون الذي وضعه. وعلى الرغم من شنق إبنة أخيه لنفسها، وانتحار ابنه من أجلها، وانتحار زوجته الملكة بسبب انتحار ولدها، لا بد من الاعتراف بأن هناك شخصاً ما يسهر على رعاية شؤون الدولة.
صوّر أنوي هذه المأساة تصويرا جديدا، يتفق مع فلسفته وفلسفة عصره، بتحريفه بعض تفاصيلها، وتغييره في اماكن أخرى، واضاف إليها ما أراد من الاضافات لكي يميز مسرحيته، ويعطيها طابعا معاصرا يحاكي احداث القرن العشرين التي تختلف بالضرورة عن فلسفة القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا ما اتخذه مخرج العرض مارك باكين، كمسار له، وأداة تفكير جمالي وفكري مسرحي معاصر.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم