بين باريس وروما... سباق على النفوذ في شمال أفريقيا
                                    في منطقة تُعدّ تاريخيّاً "مجالاً حيويّاً فرنسياً"، يتنامى في السنوات الأخيرة الحضور الإيطالي، ما يدعو إلى التساؤل عن تداعيات ذلك على علاقات فرنسا بشركائها التقليديين فيها. فروما، التي لطالما اكتفت بدور اقتصادي محدود في شمال أفريقيا مقارنةً بباريس، بدت في الآونة الأخيرة كأنّها تبحث عن التقدّم بخطوات محسوبة نحو تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي، بل والثقافي أيضاً.
حضور براغماتي
ولا يبدو أنّ تعديل بوصلة روما نحو شمال أفريقيا أمرٌ ظرفيّ، إذ يأتي مدفوعاً بأهداف استراتيجية واضحة.
ويقول النائب التونسي السابق عن دائرة إيطاليا مجدي الكرباعي، لـ"النهار"، إنّ حضور إيطاليا في شمال أفريقيا تنامى في الأعوام الأخيرة، مؤكّداً أنّه يقوم على مزيج من الاقتصاد والطاقة والأمن، وتحديداً من خلال ما يُعرف بـ"خطة ماتي".
ويضيف أنّ هذه الخطة تُقدَّم رسميّاً كآلية للتعاون والتنمية، لكنها تحمل في جوهرها بُعداً جيوسياسياً واضحاً يهدف إلى تثبيت دور إيطاليا كفاعل رئيسي، ويعيد رسم خريطة النفوذ في منطقة طالما اعتُبرت المجال الحيوي التقليدي لفرنسا.
ويشير الكرباعي إلى أنّ شركات مثل "إيني" أصبحت إحدى أهمّ أدوات السياسة الخارجية الإيطالية، فهي لا تؤمّن فقط إمدادات الطاقة لروما، بل تفتح أيضاً أمامها باب النفوذ السياسي في المنطقة.
ملء الفراغ
وفي الجزائر، التي طالما كانت باريس شريكها الاستراتيجي الأول، تبدو روما أكبر المستفيدين من توتّر العلاقات مع فرنسا. ففيما ذهبت الجمعية العامة الفرنسية إلى التصويت على قانون إلغاء اتفاق الشراكة مع المستعمرة السابقة، نجحت إيطاليا في ملء الفراغ بثقة، إذ باتت ممرّاً سياسياً واقتصادياً نحو تعزيز علاقاتها مع الفضاء الأوروبي، وفق العديد من المراقبين.
ويقول الكرباعي إنّ إيطاليا اليوم تتحرّك ببراغماتية شديدة، مستفيدة من الفراغ الفرنسي بعد سلسلة الانتكاسات التي واجهتها باريس في منطقة الساحل.
وفي تموز/ يوليو الماضي، زار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون إيطاليا، حيث التقى رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني ووقّع الطرفان اتفاقيات اقتصادية كبرى جعلت من روما الشريك الطاقي الأول للجزائر.
ويرى المحلّل السياسي سمير جراي، في تصريح لـ"النهار"، أنّ فرنسا تواجه تحدّيات في الحفاظ على نفوذها التقليدي نتيجة توتّراتها مع الجزائر، وتراجع حضورها العسكري والديبلوماسي في الساحل الأفريقي، مقابل صعوبة مجاراة الحراك الإيطالي المتسارع.

مدخل الهجرة غير النظامية
كانت الهجرة غير النظامية مدخلاً لميلوني لتوقيع شراكات متقدّمة مع الدول الثلاث، عزّزت مكانتها ووضعتها في منافسة مع باريس التي تراجع حضورها.
وفيما حرصت ميلوني على القيام بدور الوسيط بين تونس وأوروبا، وسعت إلى حثّ الاتحاد الأوروبي على تقديم المساعدات المالية لتونس، اكتفى الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون بدور المتفرّج.
وزارت ميلوني تونس في خمس مناسبات، ويرى الكرباعي أنّ إيطاليا تعتمد على ديبلوماسية الهجرة والأمن لتعزيز نفوذها، فهي – وفق تعبيره – "تربط استقرار شمال أفريقيا بأمنها القومي، لذلك أبرمت اتفاقيات تعاون استراتيجية مع تونس وليبيا".
ونجحت ميلوني، التي أدّت دوراً بارزاً منذ وصولها، في توطيد العلاقات بين بلدها والضفة الأخرى من المتوسط، وتمكّنت بفضل تحرّكاتها واتصالاتها المكثّفة مع دول المنطقة من تقليص تداعيات الهجرة غير النظامية.
وفي ليبيا، التي كانت ساحة تنافس وصراع بين فرنسا وإيطاليا، خصوصاً بعد إسقاط نظام حكم معمر القذافي والكشف عن الدور الذي قامت به فرنسا في ذلك – وتحديداً رئيسها السابق نيكولا ساركوزي – تمكّنت إيطاليا من ترميم حضورها في البلد.
ومنذ اندلاع الصراع الليبي حرصت روما على الحفاظ على قنوات تواصل مع حكومتي طرابلس وبنغازي، فيما تراجع حضور باريس السياسي نسبياً بعدما فقدت نفوذها داخل بعض الفصائل العسكرية الليبية، رغم أنها لا تزال أكثر انخراطاً في الملفات الأمنية الإقليمية.
وتستفيد ميلوني في هذا السياق من علاقاتها الوطيدة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ تُعدّ الزعيمة الأوروبية الأقرب إليه، ما يمنحها حضوراً أقوى في المنطقة.
منافسة أم صراع؟
وإن لم تنجح روما في أن تكون بديلاً لباريس، فإنّها قد تكسر الاحتكار الفرنسي للمنطقة، وفق العديد من المراقبين.
وعلى عكس فرنسا التي تربطها بدول المنطقة علاقات تحكمها الرواسب التاريخية، فإنّ إيطاليا لا تسعى إلى فرض حضورها عبر اللغة والثقافة، بل تعمل على أن تكون البديل المنشود.
ويقول جراي إنّ هذا التحوّل لا يعني نهاية الدور الفرنسي، لافتاً إلى أنّ هناك إعادة تشكيل تدريجية لمعادلات القوة في المتوسط، بما يعكس تنافساً أوروبياً جديداً على المنطقة.
ويرى الكرباعي أنّه لا يمكن الحديث اليوم عن صراع مباشر بين روما وباريس، لكنه يشير إلى وجود تنافس واضح داخل الاتحاد الأوروبي حول من يمتلك مفاتيح العلاقة مع جنوب المتوسط.
ويؤكد النائب التونسي السابق أنّ فرنسا لا تزال تملك شبكة نفوذ ثقافية ولغوية تاريخية، لكن إيطاليا تُقدّم نفسها كشريك عملي، أقلّ تدخّلاً في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
ويعتبر أنّ ما نشهده هو إعادة توزيع للأدوار الأوروبية في شمال أفريقيا، وفي تقديره "مقابل تراجع النفوذ الفرنسي تتقدّم إيطاليا بوتيرة ثابتة، باعتماد أدوات اقتصادية وأمنية بدلاً من أدوات الهيمنة القديمة".
ويلفت إلى أنّ تداعيات هذه الدينامية الجديدة لن تُغيّر فقط موازين القوى في المتوسط، بل ستُعيد تعريف علاقة أوروبا بأفريقيا في السنوات المقبلة، خصوصاً مع دخول لاعبين جدد كتركيا وروسيا والصين على خطّ النفوذ في القارة.
    
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                        نبض