تحرّك مصري متكامل نحو غزة: رسائل تطمين وضغط واستباق للمرحلة المقبلة
دفعت القاهرة، خلال الأيام القليلة الماضية، بمئات شاحنات المساعدات الإنسانية والمعدات الثقيلة إلى قطاع غزة. ويرى محللون أن تلك الإجراءات، إلى جانب مساعٍ أخرى، تسعى من خلالها مصر إلى توجيه رسائل مهمة في اتجاهات متعددة، وتحقيق أهداف محددة.
فعلى سبيل المثال، أرسل الهلال الأحمر المصري، يومي الأحد والاثنين، أكثر من 800 شاحنة مساعدات إنسانية إلى غزة، أي ما يعادل نحو 20 ألف طن من البضائع. كما أدخلت القاهرة معدات ثقيلة إلى القطاع، وقالت وسائل إعلام محلية إن الهدف من ذلك هو فتح الطرق ورفع أنقاض المباني المدمّرة نتيجة الحرب الضارية التي استمرت نحو عامين.
ورغم أن المساعدات تندرج ضمن بنود المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب وإحلال السلام في الشرق الأوسط، فإن إعادة إعمار غزة تدخل في نطاق المرحلة الثالثة من الخطة، مع الأخذ في الاعتبار أن المرحلة الثانية، وهي الأكثر تعقيداً، لم تبدأ مفاوضاتها بعد، ولم يُحدَّد لها موعد حتى الآن.
وفي السياق ذاته، تُعدّ القاهرة لاستضافة مؤتمر دولي لإعادة الإعمار منتصف تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. كما نظّمت قبل أيام اجتماعات لفصائل فلسطينية تمهيداً لعقد حوار وطني يهدف إلى توحيد رؤية الفصائل بشأن مستقبل غزة واستعادة وحدة الصف الفلسطيني مجدداً.
هذه المسارات المتوازية، التي يستبق بعضها الترتيب المعلن في الخطة الأميركية، تطرح تساؤلات مهمة بشأن الرسائل والأهداف الكامنة خلف هذه الإجراءات.
تطمين وضغط
تقرأ المحللة السياسية والباحثة في الشؤون الدولية الدكتورة تمارا حداد رسائل وأهدافاً متعددة بين السطور، وتقول لـ"النهار" إن "زيادة تدفّق المساعدات وإدخال المعدات الثقيلة يشكلان رسالة تطمين من مصر إلى الفلسطينيين، مفادها أنها لن تتركهم بعد الهدنة".
وتضيف المحللة الفلسطينية: "في الوقت ذاته، تضغط القاهرة على إسرائيل وتثبّت الفلسطينيين في أرضهم من خلال اتخاذ خطوات مبكرة تمهّد وتعزّز الآمال في إعادة إعمار غزة، ما يعرقل خطط تهجير سكان القطاع".
وتشير حداد إلى أن "مصر حريصة على تثبيت الوجود الفلسطيني على الأرض قبل بدء أي مشاريع لإعمار غزة"، معتبرة أن "القاهرة تلعب بذكاء خارج النص، وتستبق فوضى ما بعد الحرب، وتسعى إلى توحيد الفصائل وتعزيز دور السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لما لهما من أهمية محورية في القضية الفلسطينية".
آليات ثلاث
من جانبه، يرى المحلل السياسي الدكتور محمد الطماوي أن مساعي القاهرة تهدف في مجملها إلى تحويل "الهدنة الهشّة" إلى مسار سياسي يفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. ويقول لـ"النهار" إن "العالم يراهن على تحويل الهدوء الهش إلى واقع مستقر من خلال آلية ثلاثية".
ويشير إلى أن هذه الآلية تتكوّن من: "أولاً، مراقبة دقيقة لتنفيذ التعهدات الإسرائيلية المتعلقة بوقف العمليات العسكرية والسماح بدخول المساعدات. ثانياً، ضمان التزام الفصائل الفلسطينية بعدم التصعيد مقابل تحقيق تقدّم ملموس في ملف الإعمار. وثالثاً، تفعيل الدعم العربي والدولي لإعادة بناء القطاع بما يعزّز الثقة ويمنع انهيار الاتفاق".
ويرى أن "استمرار التهدئة يظلّ مرهوناً بعوامل عدة، أبرزها غياب الأفق السياسي، وصعود اليمين الإسرائيلي المتطرف الرافض لأي تسوية، والانقسام الفلسطيني الداخلي".
ويعتقد الطماوي أن "الهدنة الراهنة أقرب إلى اختبار نوايا منها إلى اتفاق نهائي، ومع ذلك، يبقى الدور المصري الضامن الأهم لعدم العودة إلى دوامة الحرب، ومحاولة تحويل وقف النار إلى نقطة انطلاق لمسار سياسي واقعي يفتح الباب أمام إعادة الإعمار واستعادة أمل الدولة الفلسطينية المستقلة".
وحدة الصف
ويرى محللون أن أحد أبرز التحديات المعقّدة يتمثل في الانقسام الفلسطيني المستمر منذ نحو عقدين، والذي طالما استغلّته إسرائيل لتبرير وقف مفاوضات السلام وتعطيل حلّ الدولتين.
وخلال الأيام القليلة الماضية، استضافت القاهرة حواراً ضمّ عدداً من الفصائل الفلسطينية، من بينها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وتسعى مصر إلى توحيد الرؤى بين الفصائل بشأن مستقبل قطاع غزة، والعمل تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
ويعتقد مراقبون أن المساعدات وتمهيد الأرض لإعادة الإعمار تشكلان رسائل تطمين لسكان غزة، في حين أن توحيد الصف الفلسطيني سيشجّع المانحين على تقديم التمويل اللازم لإعادة الإعمار، التي تُقدّر كلفتها الأولية بنحو 70 مليار دولار.
كذلك، فإنّ وحدة الصف الفلسطيني ستساهم في تعزيز الموقف التفاوضي، وتسريع الخطى نحو حلّ سياسي ينهي الصراع الممتد لعقود طويلة، وربما تُجبَر الحكومة الإسرائيلية المتشددة على القبول بحلّ الدولتين، لاسيما في ظل ضغط أميركي ودولي يشكل فرصة قد لا تتكرر.
نبض