أكبر تحرّك بيئي في تاريخ تونس: قابس ترفض الموت بصمت
نفّذت محافظة قابس، أمس الثلاثاء، إضراباً عاماً احتجاجاً على تردي الأوضاع البيئية فيها.
وجاء الإضراب بناءً على دعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل، ووفق مصادر "النهار" حقق نسبة نجاح كبيرة. واستثنى الإضراب بعض القطاعات الحيوية لتأمين الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون، من بينها خدمات الصحة العاجلة.
إضراب ناجح
وفي مشهدٍ نادرٍ يجسّد وحدة سكان المنطقة حول مطلب واحد: الحق في هواء نقي بعيداً عن التلوث الصناعي الذي يخنق المدينة منذ عقود، توقفت الحياة في المحافظة الواقعة جنوباً على بعد 400 كيلومتر من العاصمة تونس، وتوقفت وسائل النقل عن العمل، وتعطلت الدروس في المدارس والجامعات، فيما خلت الأسواق الشعبية من روادها، وأغلقت المخابز والمطاعم والمراكز والمحال التجارية أبوابها.
يقول كاتب عام الاتحاد الجهوي للشغل بقابس صلاح بن حامد، لـ"النهار"، إن "الإضراب حقق نسبة نجاح تناهز 95 بالمئة"، مؤكداً أن هذا النجاح يعكس تمسك سكان المدينة بمطلب تفكيك وحدات المجمع الكيميائي المسبب للتلوث. ويشدد على أن المنطقة بحاجة إلى قرارات فورية لحل الأزمة.

أسبوع ساخن
وسجلت المدينة في الأسابيع الأخيرة العشرات من حالات الاختناق طال جزء منها طلاب المدارس، وتم إسعاف عدد منهم ونقلهم إلى المستشفيات.
ويقول السكان إن انبعاثات الغازات السامة من المجمع زادت في السنوات الأخيرة مقابل عدم وجود عمليات صيانة، ما تسبب في زيادة تلوث الهواء في المدينة.
وتقول عائشة، وهي سيدة تقيم في قابس، لـ"النهار"، إن سكان المدينة ينشدون حقهم في العيش في بيئة سليمة، فيما يؤكد الناشط البيئي خير الدين دبية في تصريح لـ"النهار" أن "المجمع سلب السكان حقهم في تنفس هواء نقي"، لافتاً إلى أن السلطات خيّرت منذ عقود التصنيع على صحة السكان.
ولاقت احتجاجات قابس مساندة واسعة من منظمات المجتمع المدني التي أعلنت تضامنها معها، مؤكدة على مشروعية مطالب المتظاهرين.
مسيرة حاشدة
وظهراً، تجمع عشرات آلاف المتظاهرين في منطقة عين سلام على بعد أمتار من مقر المجمع الكيميائي الذي يخضع لحراسة مشتركة بين وحدات الجيش والشرطة.
وسار المتظاهرون في شوارع المدينة مرددين شعارات تنادي بوقف نشاط المجمع وتفكيك وحداته، على غرار "الشعب يريد تفكيك الوحدات" و"أوقفوا القتل الصامت".
وتشهد المحافظة منذ أكثر من أسبوع احتجاجات يومية تطالب بحل أزمة التلوث التي يسببها المجمع الكيميائي وتطالب بتفكيك وحداته، وتطورت بعض هذه الاحتجاجات إلى مناوشات مع الأمن استُعمل خلالها الغاز المسيل للدموع، فيما أعلن عن اعتقال العشرات من المتظاهرين، من بينهم قُصَّر.
وهذا أكبر تحرك احتجاجي بيئي في تاريخ تونس، وهو ما يعكس عمق الأزمة التي تعاني منها المحافظة.
ويربط السكان بين المجمع الكيميائي والأمراض المنتشرة بالمحافظة، من بينها الأمراض السرطانية والتنفسية، ويقولون إن الغازات المنبعثة منه وراء ارتفاع عدد الإصابات بها.

حلول حكومية غير كافية
وجاء الإضراب على بعد ساعات من جلسة عامة ساخنة شهدها البرلمان التونسي، خُصصت لمناقشة ملف التلوث في المحافظة، أُقرت خلالها بوجود أزمة بيئية حقيقية في قابس، وتعهدت الحكومة، التي كانت ممثلة بوزيري الصحة والتجهيز، بإيجاد حلول لها على المدى القريب والمتوسط، من ذلك تأهيل المعدات.
واستعرض وزير التجهيز صالح الزواري برنامجاً يتضمن تنفيذ 6 مشاريع لإعادة تأهيل المجمع الكيميائي، إلى جانب التوقف عن تصريف مادة الفوسفوجيبس (مخلفات صناعية) في بحر قابس، وكشف عن الاستعانة بفريق صيني لحل الأزمة، فيما أعلن وزير الصحة مصطفى الفرجاني إطلاق قطب خاص بالأمراض السرطانية في المحافظة خلال العامين المقبلين.
ولم يكن الرد الحكومي على أزمة النفايات مقنعاً بالنسبة لسكان المدينة، وقال سامي ليمام، أحد سكان شط السلام، بصوتٍ يختنق غضباً لـ"النهار"، إنه يشعر بخيبة أمل كبيرة، مؤكداً أنه وجميع مواطني المحافظة "متمسكون بمطلب تفكيك وحدات المجمع القاتلة".
قيمة اقتصادية
ورغم كل الجدل الذي يثيره المجمع الكيميائي في قابس التونسية، إلا أن الأزمة تبدو أبعد من كونها أزمة بيئية، نظراً لمكانته في النسيج الاقتصادي التونسي، ما يجعل الحكومات المتعاقبة عاجزة عن إيجاد حل لها.
ومنذ إنشائه في سبعينيات القرن الماضي، شكّل المجمع إحدى ركائز الصناعة التونسية، إذ مثّل القلب الصناعي لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية الموجَّهة للاستهلاك المحلي وللتصدير نحو أسواق أوروبا وأفريقيا وآسيا.
وتبلغ مساهمة المجمع في الناتج الداخلي الخام نحو 3 بالمئة، كما أنه يُعتبر أبرز مشغِّل في المنطقة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
نبض